ظروف عملي لا تتيح لي فرصة كبيرة من الزمن لمشاهدة التلفزيون كبقية البشر.. لهذا فمعظم ما أعلِّق عليه يكون جزءاً شاهدته من كلٍ لم أحضره.. ولقد استمعت -حين سنحت لي الفرصة- بمشاهدة جزءٍ من إحدى حلقات البرنامج التلفزيوني الممتع للأستاذ الإعلامي المعروف حسين خوجلي (تواشيح النهر الخالد).. وما شاهدته كان جميلاً وممتعاً (لكنه مرَّ سريع)، كما قال الشاعر المغربي بلسان الراحل عبد الدافع عثمان.. الأستاذ حسين عرض ملامح من العمالقة: محجوب عثمان، صلاح محمد عيسى، ورمضان حسن.. ولقد سبق أن كتبت عن هؤلاء الثلاثة ضمن آخرين في تعليق لي على حلقات من برنامج عمنا الأستاذ القدير السر قدور الرمضانية، وذكرت معهم العمالقة: عبيد الطيب، الخير عثمان، أحمد علي الرباطابي، زكي عبد الكريم، أحمد فرح وخليل إسماعيل، على أنهم مظلومون إعلامياً رغم عظمتهم.. بل إنني أرى أنه حتى المطرب الكبير عبد العزيز داؤود ومن عاصروه لم يبرز إلى الناس كل الدرّ المكنون الذي تذخر به مكتبة الإذاعة.. ولعل فيما انتقاه نجوم الغد خير برهان لذلك.. بعض ممن ذكرت لا يعرف المستعمين إلا القليل من انتاجهم.. ولكنه مقنع جداً بعظمة هؤلاء الرواد، مما يؤكد أن الأمر بالكيف قبل الكم... وهاهو المغني الشاب الراحل عمر أحمد سمعت أنه قدم أغنيتين فقط ورحل.. أنا شخصياً لم أسمع غير واحدة يتيمة هي(كان بدري عليك) من كلمات المبدع الخالد عبد الرحمن الريح، ذات الشجن الطاغي والمسحة الحزينة الشجية، واللحن الآسر والصوت الرخيم.. فكانت كفيلة بتخليد شاعرها ومؤديها.. وأغنية أخرى لعلي سمعت الأستاذ حسين نفسه يقول إنها يتيمة عند مطربها (العزيزة الما بتسأل عن ظروفنا).. إذاً فالقلة النقية الشجية لا تغيب بل هي خالدة.. وكنت أرجو من أستاذنا السر قدور أن يفرد مساحات كافية للشعراء والملحنين كما للمطربين، وهو قد فعل ذلك بالفعل، لكن لعل طبيعة برنامجه تقوم على التنويع والعرض باقتضاب يحكمه زمن البرنامج.. هؤلاء الثلاثة هم من بنوا قلاع الإبداع الغنائي السوداني الخالد(الشعراء الملحنون والمطربون).. الأستاذ السر قدور بحكم معاصرته لكثير من خبايا وخفايا ولادة الكثير من هذا الإرث الغنائي العظيم وما صاحبه من طرائف و(مقالب)، وحظوظ وإضرابات ومصادفات ومصادقات وثنائيات.. الخ.. أعطي الحلقات عبقاً جميلاً له رائحة ومذاق، وجعل الأغنية تتجسد وهي (تركز) في مخيلة كل متلقٍ بكل أبعادها وظروف خروجها للتداول، لذا نرجو أن تشملها (التواشيح) بتوسع أكثر رغم أنها لن تكون بنفس سعة عباءة إبداعهم الفضفاضة المذهلة، التي تشبه تلك التي (ينفضها الحاوي)، فتتساقط منها الفراشات والإزهار والأقمار والغيوم والنجوم.. أغاني الحقيبة والربوع وأغاني هؤلاء الرواد وحتى أغاني المعاصرين ذات المعاني الرصينة والألحان البديعة، والأداء الجميل، يكتب لها الخلود ضمن الإرث الغنائي، وتكون كالواحة التي تقينا قيظ الغث من (هوابط) الكلمات المؤداة، لذا هي تنزل علينا برداً وسلاماً.. وأسعدني جداً أن استمع لتلك الأصوات المغردة الأنيقة التي أدت أغاني صلاح محمد عيسى ومحجوب، ورمضان حسن، بل أنني أحسست بتشابه كبير بينهم (أحدهم سمعته لأول مرة) وأجزم أن الأستاذ حسين كان موفقاً في استضافته. كثيراً ما تتأخر مقالاتي عن النشر أحياناً لبطء في تسليمها، وأحياناً أخرى لبرمجة تخص أرباب الصحف.. ووالله كنت قد اقترحت ضمن مقالي هذا أن يتحفنا الأستاذ حسين بنوافذ مشرقة تهل عبرها إبداعات هؤلاء الرواد من ضمنهم الثنائي عثمان الشفيع، وود القرشي واقترحت الفنانة الصاعدة (شموس)، وأخرى لسيد خليفة على أن (يحتكر) الغناء فيها ياسر عبد الوهاب فقط.. وهو أصلاً ضمن الكوكبة المتعاونة مع برنامج التواشيح، لأن صوته يحمل الكثير من الجينات الجمالية التي يزخر بها صوت سيد خليفة. أما أن قدم حلقة عن عائشة الفلاتية فأعيد مقترحي الذي قدمته لعمنا الأستاذ قدور، وهو أن تستضاف فنانة أعتقد أن مكتشفها هو السيد السموأل خلف الله (إن لم تخنِ الذاكرة) وهي (فاطمة مختار) والتي ظهرت واختفت تماماً كما هو حال فنانة نجوم الغد الموهوبة (خالدة فتح الرحمن)، والتي توقعت لها الفوز بالمركز الأول لكن لم توفق.. قبل تقديم مقالي قدم الأستاذ حلقة عن الشفيع وود القرشي، وللأسف لم أشاهد منها غير (وطن الجدود) المؤداة وقوفاً.. وحقاً (القومة ليك ياوطني) وقبلها أغنية (القطار المر) التي أداها شاب بصورة... ومعذرة على قولي بأنها باهتة.. ولم يكف أثناء غنائه عن (المتاوقة) للمنضدة أمامه، ولعله كان يستعين بورقة تذكره بكلمات الأغنية، وهذا ما كنت أعيبه على بعض مطربي حلقات (أغاني وأغاني)، نرجو من الأستاذ حسين دعوة بعض المطربين الآخرين مثل عاصم البنا، وياسر تمتام، وكذلك بعضاً من نجوم الغد الذين غابوا في زحمة الحياة لنسيان الإعلام لهم، رغم أصواتهم الجميلة، وهو بهذا يكسر احتكار وجوه معينة وجدت حظها من الانتشار.. وأخيراً أذكر ملاحظة أرجو من الأستاذ مسامحتنا عليها، وهي أنه قد لا يحتاج لكل هذا الحشد من المؤدين في الحلقة الواحدة. وفي الختام نشكر الأستاذ حسين وكذلك الأستاذ السر قدور، وكل من أسهم ويسهم في التوثيق لهذا الإرث العظيم، والعمل على التعريف به وتخليده.