كنا في المرحلة المتوسطة.. وكان اليوم الأول من يناير 1956.. وكانت في المديرية كلها من وادي حلفا إلى الجيلي مدرسة متوسطة واحدة، أضيفت إليها في العام الدراسي 54 / 1955 مدرسة واحدة هي مدرسة الدامر الإعدادية المصرية.. هدية من مصر أم الدنيا وإحدى أياديها البيضاء على شقيقها التوأم السودان، وإحدى ثمار الثورة المصرية الظافرة التي غيرت وجه الحياة في ذلك الجزء العزيز من وادي النيل.. وكان ذلك نتاج لقاء آبائنا مع صلاح سالم أحد أبناء الوادي والمولود في سنكات في شرق السودان هو وشقيقه قائد الجناح جمال سالم.. وقبل ذلك نتيجة اللقاء الحميم بين أهلنا ومعالي الدكتور محمد صلاح الدين وزير خارجية مصر في وزارة النحاس باشا.. وزارة الوفد والذي وقف بيننا خطيباً ونحن بعد تلاميذ صغار في المرحلة الأولية في مدرسة الدامر الجنوبية التي أسسها آباؤنا بجهدهم وحر مالهم.. إذ لم يكن بالدامر كلها إلا مدرسة أولية واحدة مقصورة على أبناء الموظفين وأبناء الإدارة الأهلية وخدام الحكومة بعدد محدود من الطلاب، أما بقية الأبناء والأطفال فلا مكان لهم في التعليم.. ولا مكان لهم من الإعراب.. ًü في ذلك اليوم تم حشدنا ونحن بعد يفع صغار لنشهد حدثاً عظيماً.. حدثاً تاريخياً لن يتكرر وهو رفع العلم على سارية المديرية الشمالية في دامر المجذوب عاصمة المديرية، وإنزال علميّ دولتي الحكم الثنائي بريطانيا ومصر التي لم يكن لها في الحكم نصيب من إخراجها من السودان في عام 1924 وهي في ذات الوقت ومنذ ذلك التاريخ دولة ناقصة السيادة تقع تحت ربقة الاستعمار البريطاني الذي تحتل قواته ثكنات قصر النيل في القاهرة والإسماعيلية ومناطق القناة، ويدير شؤون الحكم المندوب السامي البريطاني من قصره في جاردن سيتي.. ولم يتم التحرر والجلاء إلا بعد اتفاقية 1955 التي أجلت القوات البريطانية عن أرض مصر.. بل والتي حققت جلاء القوات البريطانية عن أرض السودان قبل مصر العزيزة.. وتلك من إشراقات عبد الناصر والثورة المصرية التي رأت في حرية السودان حرية مصر ورفعتها وكرامتها.. فلا معنى لجلاء القوات البريطانية عن القاهرة والسويس إذا كانت لا تزال جاثمة في الخرطوم.. لله در ذلك الرجل العملاق.. ü في ذلك اليوم تلقينا أول درس في الوطنية وفي أن نكون رجالاً أوفياء لهذا الوطن ولهذا الوادي وأهله.. وأن نكون قدوة لغيرنا من الأجيال.. وحق لنا أن نقول بعد ذلك: من غيرنا أعطى لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر؟