حين دخلت الجزيرة (أبا) عبر أسفلت (الجاسر) في ديسمبر من العام الماضي 2010م، تذكرت الشيخ (محمد محمد صادق الكاروري)، عندما ارتكز عام 1970م مع الإمام الهادي المهدي لاعلاء راية (لا اله إلا الله) وتذكرته هو نفسه وهو حكيمنا بمنظمة الدعوة الإسلامية (بالرياض) الخرطوم، وحين زرته بمنزله بأركويت كان صادقاً ينثر الدرر والحكمة.. ثم ذهب ملبياً نداء ربه الأعلى.. فصدَّرت مقال (الطرفة) هذا بهذه النافذة متأثراً بمقولة(أذكروا محاسن موتاكم)، وكذلك أردت بها العظة لأن الحديث يقول (كفى بالموت واعظاً)، ولكن معبري هو لأخي العالم (عبد الجليل النذير الكاروري) خطيب منابر الجمعة (بمسجد الشهيد) بالمقرن وغيره.. فقد أتانا يوم افتتاح جسر (كرري الحلفايا)، إذ ترافق ذلك وتزامن مع افتتاح والصلاة بمسجد الشهيد العابر لمولاه ابراهيم شمس الدين بمثلث الحلفايا/الدروشاب/الازيرقاب ببحري، ومثلما ذكرت لكم في مقال الجمعة الماضية أن د. عبد الرحمن الخضر والي الخرطوم والشاب عثمان الكباشي وزير الدعوة، واللفيف الذي كان معهم أزاحوا الستار للأذان بالصلاة في هذا المسجد الأنيق، وهو مؤسسة قادمة كمؤسسة (النور) بكافوري مدينة الأخ الرئيس البشير ببحري، وهو أي (مسجد الجسر) سيأتيه الناس رجالاً وركباناً ليحصدوا منافع لهم، فمن بعد الإزاحة زحف الناس الى المسجد، واكتظت كذلك الفرش المبثوثة على صحنه الخارجي حتى فاض الحرم.. حرم المسجد وتبارت أعين الكاميرات اللاقطة ليشهدوا من القادم على (منبر) الجمعة، هذا في 7/1/2011 من العام الجديد في هذا الحرم الجديد، فكان الصاعد للمنبر هو الخطيب (الكاروري)، ثم حمد الله وأثنى عليه لإقامة هذا البيت الجديد، ليذكر فيه اسم الله، وانداح بمنهجيته القاصدة فأصغى اليه الناس إلا من مؤدٍ لتحية المسجد، ثم يجلس اليه وينصت، والناس كمصلين في هذا الصمت والإصغاء التعبدي، عبر بهم (عبد الجليل الكاروري) الى بعض أطراف الجنوب (جنوب السودان)، فذكر أنه- أي عبد الجليل- وفي عام 1983 تحرك جنوباً هو ومن معه حتى حط عصاه في مريدي، ووعظهم في مسجد مريدي، فحين صافحوه بعد الصلاة شكوا اليه مؤذنهم (مؤذن المسجد) بمريدي، وذلك أنه يواظب مؤذناً بالمسجد رافعاً صوته 11 شهراً.. ولكنه يغيب شهراً.. الشهر المكمل للسنة القمرية، فرجوه أن ينصحه لهم حتى يكمل سنته (اثنا عشر شهراً)، وكان المؤذن حاضراً فسأله الكاروري ما هذا الذي يقوله المصلون بالمسجد؟ فقال: هو (العبد الجليل) إن هؤلاء الناس يغطون استحقاقي (للأذان) بالمسجد 11 شهراً، وينقصونه شهراً فأنا أتجه في هذا الشهر لمنطقة بمريدي يتوافر بها عسل النحل، فأحصد منه قدراً، ثم أبيعه بالأسواق، فأسد به حاجتي وحاجة عيالي، فهذا هو الشهر الذي اختفى فيه.. فقال الكاروري على منبر جمعتنا هذه بمسجد الشهيد ابراهيم شمس الدين بالحلفاية، قال لنا: فقلت لهم أي لمصليي مريدي، حين سمعت منه هذا الغياب لشهر كامل، وهو يحصد العسل، قلت للأخوة حينها يا اخوانا ما تخلوه (لشهر العسل)، فصدرت من المصلين بمسجد الحلفاية رنة ضحكة فجائية، دون أن يتحسب لها أحد، وهم طبعاً كمصلين ببحري غمرتهم شهوة الرواية.. ثم فاجأتهم رمزية (شهر العسل)، فكانت تلكم الرنة الجماعية داخل المسجد والإمام على المنبر في ركعتي الخطبة الناطقة، وحين قضينا الصلاة وخرجنا لمنزل صديقنا الفاضلابي بالدروشاب قرب المسجد سألت أخي العالم (الكاروري) عن تلك الطرفة على المنبر، وهي حكاية (عسل مريدي)، وعن ضحكة المصلين المفاجئة حين سمعوا شهر العسل، فاختلط عسل بعسل آخر، فهل يا شيخ الكاروري هذه الرنة الجماعية تقدح في الصلاة؟.. صلاة الجمعة والناس جميعهم في حيازة الركعتين الأوائل وهي الخطبة، فأجابني الأخ عبد الجليل والناس من حولي يسمعون، أجابني: إنها لا تقدح في الصلاة، لأنها (رنة سهو مباغت) وليست مقصودة، فضحكنا نحن كذلك، وكانت طرفة ألمعية واجابة قبيل الغداء الدسم في منزل أخينا الفاضلابي، والمُلح كثيرة والطرف، وهي خفة في الروح وترويح عن القلب، وذكرني أيضاً هذا التداخل بموقف أخي (أكول) الذي جاءني يوماً من رمبيك عام 2005 قائلاً: إن هناك مجموعة نافذة برمبيك منعتنا عن رفع الأذان بالمسجد (مسجد رمبيك) العتيق، فماذا نفعل في هذا الموقف؟ فقلت له أرجع اليهم برمبيك واذكر أن الأديان لها(مآذنها وأذانها)، ولها أجراسها ولا تتم العبادة إلا بذلك، فإما تُمنع جميعها أو تترك كلها، ونحن وأنتم من هذه المنطقة فامنعونا جميعاً، وإلا سوف لن أتوقف عن أذاني أبداً.. فرجع أكول الى رمبيك وأحسب أن مسجدها العتيق يصدح اليوم بصوت بلال مؤذناً.. ويزداد ألقاً ورنة قوية مثله مثل مسجد (واو)، الذي افتتح عام 1934، فحين أقمنا فيه داراً للأيتام (للإيواء والتعليم) عام 1992 تماسكت أيدي أهل السوق بواو وتكفلوا بالمنصرفات وبالطعام، كما أنهم أي تجار واو حين افتتحت بها مدارس (المختار) تعهدوا بوجبة الإفطار للتلاميذ يوماً، وهي عبارة عن (صحان من الأرز)، تقوم بطبخه ناشطات من النساء داخل المدرسة بمدينة واو، فكانت هذه الوجبة هي كسرة فرح ود تكتوك المشهورة، فتوافد التلاميذ على هذه المدرسة، وتكون قد صارت صرحاً شامخاً اليوم، تضاف لمسجد (الربوة) بواو وتضاف كلها لانجاز اللواء كمال قائد المنطقة العسكرية (بقرنتي) الذي أعان على إقامة مركز طبي لمكافحة الملاريا بالقطاع، وأعان كذلك في كسوة وامداد عدد من الخلاوى والدور.. نذكر كل هذا تداعياً وتراكماً لمنجزات قام بها حداة ومبادرون، وهي عنده تعالى لا تنسى، وقد دلنا عليها خطاب الأخ الفقيه عبد الجليل الكاروري على منبر مسجد الشهيد ابراهيم شمس الدين بمثلث الجسر ببحري، ونأمل أن نكون كلنا في كنف الحديث الشريف (الدال على الخير كفاعله)، وإذا كنا نحن يا أخي الكاروري نريد أن نقيم مسجداً أبيض بالبيت الأبيض كمسجدنا الأبيض بساحة قصرنا الجمهوري بالخرطوم، فإن مثلنا الدارجي يقول: (الما كسا أمو ما بكسي خالتو) بمعنى الأولويات، فإن أولويتنا الراهنة هي خطب وعظات المساجد بالمدن الكبرى (جوبا- ملكال-واو- نمولي- راجا- توريترمبيك الرنك) فإن كانت القيامة ستقوم غداً فاركزوا القرآن في (تنقله) و(منقلة) والله يكفل بالتمام..آمين.