تحدثت في مقال سابق عن المحاكم الدستورية وكيف أن قراراتها نهائية وغير قابلة للطعن فيها بأي طريقة من الطرق، كما أنها ملزمة لجميع أجهزة الدولة وللكافة فور صدورها، وتناولت المبادئ العامة التي أرستها السابقة الدستورية الشهيرة (محجوب محمد صالح ضد حكومة السودان والمجلس القومي للصحافة)، والتي أرست أن مسؤولية رئيس التحرير ليست مسؤولية مطلقة، وأنه يستطيع أن يدفع أمام المحكمة المختصة، بأن ما سمح بنشره لا يلحق ضرراً بالأمن أو النظام أو السلامة أو الآداب العامة، وفق ما فصله القانون، وأكدت السابقة المذكورة أن المجتمعات ستضار مما ينشر إذا سمح لرئيس التحرير أن يدعي عدم العلم بما نشر، دون أن يثبت علة حالت دون علمه، ولكل كان أن أعلنت المحكمة الدستورية، دستورية المادة المتعلقة بمسؤولية رئيس التحرير. وفي السابقة الدستورية آمال عباس العجب ضد المجلس القومي للصحافة وحكومة السودان بالنمرة م د/ ق د/9/1999 بتاريخ 28/4/1999م وتتلخص وقائعها في: أن المدعية طالبت بإعلان عدم دستورية المادتين 2/3 المتعلقة بقواعد انتخابات أعضاء المجلس القومي للصحافة، والمنصوص عليها في المادة 9 من قانون الصحافة لسنة 1999م، وذكرت المدعية أن رئيس لجنة إعتماد ترشيحات الصحفيين لعضوية المجلس رفض إعطاءها شهادة لمسجل عام تنظيمات العمل لضمها لقائمة المرشحين، معللاً ذلك أنه يجوز ترشيح أي صحفي لعضوية المجلس إذا كان مسجلاً لدى الاتحاد العام للصحفيين السودانيين- لذلك أسست الطاعنة دعواها على عدم دستورية المواد التي ذكرتها، وذكرت أن في ذلك انتهاك وهدر ومصادرة للحقوق والحريات، واليكم أهم المبادئ الدستورية التي تناولتها السابقة المذكورة(عندما تنص الدساتير على الحريات كما هو الحال في كل الدساتير فإنها لا تترك النص مطلقاً دون أن تنظمه، وترسم الطرق لممارسته). لذا فإنها تنص في كل مادة من المواد التي تكفل هذه الحريات بعد إطلاقها العبارات التي تقيدها كعبارة(وفق ما يفصله القانون)، كما نص على ذلك في المادة 25 من الدستور الخاص بحرية الفكر والتعبير وكعبارة (لا تقيد إلا وفق القانون)، وعبارة (كما ينظم ذلك القانون)، كما أورد في المادة 26 من الدستور التي تتحدث عن حرية التوالي والتنظيم والنقابات، وكعبارة (إلا بضوابط القانون) وعبارة (إلا بإذن القانون) كما ورد في المادة 29 التي تنص على حرية الاتصال.. والأمثلة على ذلك كثيرة في دستورنا الحالي وفي كل الدساتير التي سبقته.. وفي كل الدساتير في البلدان الأخرى. إن النص على الحريات في الدساتير لا يترك دون قيود ودون أن ينص في نفس الدستور على القيود التي تنظمها، وتوضح الطرق المثلى لممارستها، بحيث لا تتعدى على حقوق الآخرين.. والخطأ الشائع لدى بعض المواطنين وحتى لدى بعض من يعملون بالقانون منهم، أن النص على الحريات في الدستور يعني أن تكون مطلقة، وأن أي قانون ينظمها أو يضع الضوابط لممارستها يعتبر قيداً على الحرية، ويتنافى مع الدستور. إن الحرية المطلقة تعني الفوضى وعدم النظام والاعتداء على حقوق الغير باسم الدستور، والحرية المطلقة كالسيل الجاري يهدم ويخرب ويحطم كل ما حوله، وقد يتسبب حتى في إزهاق أرواح بريئة، ولا يسلم مواطن من خطورته ألا إذا شيدت بجوانبه الحواجز والسدود، وخططت له المجاري والمسالك التي تؤمن حياة المواطنين.. والمحكمة ترى أن القيد الخاص بأهلية المرشح لعضوية المجلس القومي للصحافة بأن يكون المرشح عضواً في الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، هو بمثابة هذه الجواسر والحواجز التي تقف حائلاً دون الفوضى وعدم الاستقرار، فهو اتحاد مسجل معترف به، وله أهدافه الخاصة لرفع مستوى مهنة الصحافة وترقيتها، والمحافظة على كرامتها وأخلاقياتها، وفي نفس الوقت هو الذي ينظم العمل بمهنة الصحافة ولا يتركها في أيادٍ متعددة مختلفة الآراء. لقد أصبحت الصحافة مهنة يعتز كل مؤهل بالانتماء اليها نسبة لما هو منوط بها من واجبات نحو الوطن والمواطنين، لذا لابد أن يجمع أفرادها تنظيم واحد له أهدافه ونظمه ومعترف به قانوناً، أسوة بالمهن الأخرى كمالمحاماة والطب والهندسة وغيرها، والتي تنضوي كل مهنة منها في اتحاد واحد، ولم تطلب باسم الحرية المطلقة أن تعمل كل جماعة منهم مستقلة عن التنظيم الذي يجمعهم، والاتحاد العام للصحفيين هو الذي يجب أن يضم كل المشتغلين بالصحافة. وأخيراً كان قرار المحكمة (أنه عندما تنص القوانين على التعامل مع أصحاب أي مهنة وتسمى الجهة التي يجب التعامل معها كما هو الحال بالنسبة لما نص عليه قانون الصحافة لسنة 1999م من أن التعامل مع مجلس الصحافة يجب أن يكون عبر الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، فإنه يتحتم على كل الصحفيين أن يمتثلوا لما نص عليه القانون وأن لا يبحثوا عن جهات أخرى بخلاف تلك الجهات التي أوجب القانون التعامل معها، لأن ذلك أمر تفرضه الضرورة وحسن الإدارة- ولكل ذلك ترى المحكمة أنه لا عيب في النصوص المطعون في عدم دستوريتها التي تتعلق بعضوية الصحفيين لدى الاتحاد العام للصحفيين السودانيين، ولا ترى مخالفتها للدستور أو تعارضها مع ما نص عليه من حقوق وحريات، وعليه قررت المحكمة رفض الدعوى وإعلان دستورية البنود الملحقة بقانون الصحافة المتعلقة بقواعد انتخابات أعضاء المجلس والعضوية المسبقة للصحفيين في الاتحاد العام، وأضافت إلى المبادئ التي تمت مناقشتها في السابقة المذكورة أن التعامل مع مهنة الصحافة يجب أن يكون عبر الاتحاد العام للصحفيين، والمبدأ العام هو أن يجتمع أفراد المهنة الواحدة في تنظيم واحد، وأن أمر تعدد جماعات المهنة الواحدة أمر غير معروف في أي دولة من دول العالم الثالث التي تحترم قوانينها ودساتيرها). ونواصل المستشار القانوني للمجلس القومي للصحافة