لقد تعاطف الرأي العام السوداني بكل فئاته بمختلف مشاربهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية وتبايناتهم الاجتماعية مع مأساة وملهاة مشروع الجزيرة وامتداد المناقل، ولولا العواطف الوطنية الصادقة الجياشة لذبح المشروع العملاق من الوريد إلى الوريد ذبح الشاة، ولكن يقظة الشعب أبقت على الجذوة وحافظت على الشعلة وجعلت قضية المشروع في بؤرة الشعور. ومهما حدث وتوالت الصفعات واشتدت الجراح فإن المشروع العملاق الجريح يمتلك كل مقومات النجاح والفلاح، ورغم آهات الأسى وأنات الألم إلاّ أنه سيهب بإذن الله من غرفة الإنعاش أكثر قوة وفتوة، وسيعود سيرته الأولى وينطبق عليه المشهد الدرامي الذي حدث بإحدى دور العروض، إذ أن عربجياً مفتول العضلات كان دائم الحضور للسينما وتستهويه الأفلام التي فيها عنف، وذات مرة كان الصراع عنيفاً وتوالت الصفعات واللكمات من هنا وهناك وتوقفت الصفافير، وتوقف باعة التسالي عن تجوالهم ولف قاعة السينما لا سيما في الدرجات الشعبية، صمت رهيب وأعصاب الجميع مشدودة ومتوترة وخافوا أن يصرع البطل الذي كانوا متعاطفين معه، وفجأة وقف العربجي الذي شاهد الفيلم قبل ذلك وصاح بأعلى صوته بلهجته الأعجمية المحببة: «ما تخافوا يا جماءة البتل ما تموت». وتبعاً لقول ذاك العربجي فإن مشروع الجزيرة وامتداد المناقل لن يموت لعدة أسباب، وهي أنه يقع في أرض شاسعة واسعة صالحة للزراعة وكانت وما فتئت غنية بالمواشي والألبان ومشتقاتها، وظلت قبل قيام المشروع تكفي حاجة قاطنيها من الغذاء والكساء ويفيض إنتاجها عن حاجتها وترفد به سكان المناطق الأخرى، وكان القطن المطري يزرع في الجزيرة ويغزل وينسج ويصدر لإثيوبيا، وتبعاً لذلك كانت توجد طبقة من المزارعين المصدرين والرأسمالية الوطنية المنتجة التي اشترت وملكت الأراضي الزراعية الشاسعة الواسعة، والمواشي والذهب والفضة والسيولة النقدية المتمثلة في امتلاك كميات كبيرة من الريال المجيدي، أما القواعد العريضة فإنها كانت تعيش حياة مستقرة رغدة وقام بعد ذلك المشروع العملاق العمود الفقري لاقتصاد السودان لعقود طويلة ممتدة، وهو بوتقة تجمُّع انصهر فيها السودانيون من شتى الأقاليم القاصية والدانية، وتبع ذلك ارتفاع الوعي والتعليم والخدمات.. والمشروع العملاق الجريح يعتبر بكل المقاييس من الأصول الاقتصادية القومية الكبرى.ويوجد الآن كوب نصفه مليء ونصفه فارغ، ولنقف الآن عند النصف المليء وبالطبع قد كانت تهدر أموال طائلة في تكلفة الإدارة وتغطية الفصل الأول، وإن تقليل هذه التكلفة وإيقاف تبديد الأموال في غير طائل هو أمر لا غبار عليه، وكما يقول الإنجليز في مثلهم عن الإدارة «الصغير جميل» ولا داعي لوجود جيوش جرارة من العاملين، ومنهم شريحة صغيرة تستنزف أموالاً كثيرة وكل همها هو الرحلات والامتيازات. وينبغي الاستعانة بأفضل الكفاءات بلا ترهل وظيفي مع تحفيزهم لمزيد من البذل والعطاء.ويدور في الجزيرة همس ينبغي أن يقال جهراً وهو أن بعض الدستوريين وشاغلي المناصب الدستورية العليا قلوبهم ليست مع الجزيرة، واهتمامهم بها ضعيف وليس لهم بها ارتباط وجداني، وعلى هؤلاء أن يدركوا أن سكان الجزيرة لن يحملوا السلاح في يوم من الأيام ولكنهم لا يرضون الضيم والهوان، ويتمتعون بقدر كبير من الاعتداد بالنفس ولا يعرفون الخنوع والخضوع وطأطأة الرؤوس، وقد خرجوا في عام 1954م في مسيرة سلمية حضارية وأقاموا عدة أيام بميدان عبد المنعم، وقلبوا كل الموازين السياسية ولسان حالهم كان يردد مقولة عمر بن كلثوم: ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً. وإن الجزيرة من مناطق الوعي المرتفع وتعج بالمتعلمين والخبراء والعلماء، ويتمتع عمالها ومزارعوها بقدر وافر من الوعي والاستنارة، ومن ناحية عملية لا يمكن استدعاؤهم كلهم لاستشارتهم ولكن من الأفضل تكوين مجالس استشارية طوعية في كافة المجالات المتعلقة بالمشروع، وفي هذا تأكيد للمشاركة الحقيقية للمزارعين الذين تضم قواعدهم خريجين زراعيين تفرغوا للزراعة ومعلمين واقتصاديين ومهندسين وقانونين.. إلخ. أما إشراك بعض الأفراد في مجالس الإدارات وإغراقهم في الامتيازات فهذا أمر يفيد القواعد العريضة، والأفضل هو وجود مجالس استشارية طوعية وأن تتم مناقشة كل شيء في الهواء الطلق دون اتخاذ القرارات والتوصيات في الغرف المغلقة، وقد أدى هذا للتخبط والعشوائية وعدم الثبات على رأي واحد، فتارة نسمع بأن هناك شركات تركية ستشترك وتارة نسمع بمحاولة إشراك شركات صينية، وإذا صح هذا القول فما هي الصيغة التي ستشترك بها هذه الشركات، وهل ستتعامل مباشرة أم توجد شركات محلية تكون واجهات لها.؟ وصرح بعضهم ذات مرة ثم صمت بأن شركة كنانة للسكر ستكون هي الممولة.. وكل هذا يدور والمزارع آخر من يعرف كالزوج المخدوع آخر من يعلم. وقد عين مؤخراً شباب من شركة الهدف مشرفين على روابط المياه وكان الخفراء يركبون على دوابهم التي تخوض في الماء، أما المشرفون فإنهم يعتلون عجلات وربما تحضر لهم مواتر وكلها لا يمكن أن تخوض في الماء، وعلى كل فإنها تجربة جديدة نترك الحكم بها أو عليها بعد تجربتها. ولا ندري هل ستقف شركة الهدف عند هذا الحد أم أنها ستقوم بأداء أدوار أخرى؟! وفي الأيام القليلة الماضية زار السيد وزير الزراعة وفي معيته السيد رئيس مجلس الإدارة المشروع، للوقوف على العروة الشتوية والاستعداد منذ الآن للعروة الصيفية، وهذه بشارة خير وخطوة في الاتجاه الصحيح وتخلٍ عن سياسة «علوق الشدة»، وندرك أن الدكتور عبد الحليم المتعافي صاحب عقلية تجارية واستثمارية ناجحة، والأمل أن يساهم بفعالية في توفير الآليات والمدخلات الزراعية في الوقت المناسب وبأسعار معقولة ومجزية لكافة الأطراف المشترية والبائعة.. دعونا نأمل خيراً ومشوار الألف خطوة يبدأ بخطوة.