في بربر القدواب كان المولد.. من أب جعلي مثقف درس بكلية غردون.. واقتات بنغمات عثمان حسين.. فصار الشجن جزءاً ملازماً لابنه «محمود».. الذي درس الخلوة والكُتاب وفي أم درمان الأهلية الوسطى.. تواصل امتداد صوته الرخيم الى قمة مداه.. بعد أن حفظ أغاني إبراهيم عوض، والعاقب محمد حسن - وعبد الحميد يوسف وكل رعيل الخمسينات وهو في الخامسة من عمره.. حيث اكتشفت عمته «زينب الحاج» حلاوة صوته ومقدرته على الحفظ والترديد دون أن يحيد عن النغمة أو يشذ عن الألحان...! ولأن له لونه الغنائي المطبوع بخياله الوثاب.. لم يكتف بترديد أغاني الغير بل اختار ترف التدفق داخل حدود ذاته فتغنى في أول حفلة له في منزل الأستاذ الشاعر الراحل «الفاضل سعد الشيخ» في ود نوباوي بأول أغنياته الخاصة.. لسه صغيرة تبت دابه.. وزي عمر الزهور في شبابه.. للشاعر الشاذلي عيدروس ومن تلحينه.. وهي ذات الأغنية التي أجيز بها صوته وسجلها للإذاعة.. وكان في السابعة عشرة من عمره..! وتلقفت «أم درمان» العطشى دوماً للإبداع.. الصوت الممتزج بصهيل الخيل الأصيلة.. وهديل الحمائم الرخيمة.. ورفع اختياره لتلك اللحون الآسرة الشجية من قيمته في بورصة فن الغناء الشعبي.. الذي يعتبر امتداداً لغناء الحقيبة.. فتعامل مع عدد من الشعراء.. منهم عبد الرحمن الريح. يا بدور ليه غبتي عن عيني.. الشاعر التوم خميس.. كانت ليلة في جنة الفردوس.. وحسن مصطفى الماحي.. أنا في هواك ضحيت يا حبيبي لو تعلم.. وعزمي أحمد خليل.. يا لعينيك بريق الماس.. وتعتبر محطة عزمي نقلة من الأغنيات التقليدية الى فضاءات أوسع.. فتعامل مع الشاعرة آمنة خير في رائعتها قصة الريد القديمة.. بسألوني عليها ديمه.. كلما حاولت انسى صحو ذكراها الأليمة..! وكان غرام النساء آنذاك سراً.. فلما صدحت به بصوت «محمود» الشجي.. تناقلت البوادي والحواضر.. قصة الريد.. القديمة قبل أن ينداح عوض جبريل ويهديه أروع أغنياته. عمري ما جيتك أعاتبك جيت أخاطبك وأنت طيب وأصلو التجريح ما بناسبك.. زدني شوق يا غالي واتدلل عليّ سيب هواك يحرقني وأوع تحن اليّ مش حرام لو مرة تبعد عن عيني في البعاد لو لحظة برجع ليك أحاسبك..! أدعوكم للاستماع لهذه الأغنية وتذوق ما فيها من لوعة وحنين.. شجن.. وروعة.. تسامح وعتاب..! قد عكف «محمود» طوال مسيرته كأحد رواد الغناء الشعبي الذين لم تجذبهم الوتريات.. ولا الأورغنات للخروج عن عباءة أصالتهم على تهذيب نفسه الغنائي.. وتصفية ألحانه.. من عيوب الإسفاف وسقطات اللغة.. وضحالة المعاني وامتهان الصور.. فأتت أغنياته مصقولة خالية من الشوائب.. محتفظة ببهائها على مر الأيام.. «شوق السنين لإبراهيم التوم - زولي الوفي لعبد العال السيد - حسن الزبير كلم قلبي». ها هو الرائد.. يحتفظ بأصالته.. ويعتلي صهوة اتحاد فن الغناء الشعبي فتشهد الدار في عهده نهضة عمرانية هائلة.. وإعادة تأهيل مستحق بعد أن انتبه كبار قادة هذا البلد إلى أن فن الغناء الشعبي جزء من تراث وتاريخ وأصالة هذه الأمة.. نفر عزيز مد يد العون.. لتعود للغناء الشعبي هيبته ومكانته.. علي عثمان.. سبدرات.. عبد الله حمد.. د. محمد عوض البارودي.. أما بشير الشيخ ابوكساوي.. فقد جعل للدار كساء يليق بها.. فشكراً بطعم الألحان.. الطابية والنيل.. لكل ما هو أصيل سوداني.. بعيداً عن ثقافة الاستلاب.. زعيق الأورغنات.. وضحالة الكلمات.. «محمد علي الحاج».. جعل لنفسه خطاً من وهج ونور لما لأغنياته من مذاق خاص في وجدان المتلقي.. نأى بها عن تصورها حبيسة البناء التقليدي للأغنية وتكشف عن مدارات رحبة للخيال والحس المرهف الفريد...!