أجد نفسي هذه الأيام في حيرة كبيرة بسبب الأحداث المتلاحقة في السودان وفي المنطقة حيث كانت بلادنا حتى الأسبوع الثاني من يناير هي محط أنظار العالم وخبر الوكالات والفضائيات الأول، وكان الاستفتاء و(توقعات العنف) هي (الأمنية) المسيطرة على عقول وقلوب الكثيرين، ولكن هذه الأمنيات والرغبات ضاعت تحت السلوك الحضاري الذي أضاع على من يقفون خلف لافتات التغيير فرصة إيجاد المناخ المناسب لزراعة ونمو وقطف ثمار الفوضى الخلاقة. تونس اختطفت الدور الأول وأصبحت هي مبتدأ نشرات الأخبار والتحليلات السياسية ومنتهاها حتى بعد هروب الرئيس زين العابدين بن علي، الذي فر بجلده - دون حقيبة ملابس - هو وأفراد عائلته وظل معلقاً في الجو لساعات طويلة حتى أجارته المملكة العربية السعودية التي أعلنت في الوقت ذاته احترامها لخيارات الشعب التونسي. وقبل أيام التفتت الأعناق نحو مصر الشقيقة وما يجري على أرضها، ولم يتوقع أحد أن تصل الأمور إلى هذا الحد، لأسباب تأريخية وموضوعية.. الأولى تتلخص في أن الدولة المصرية، ومنذ أن تأسست قبل آلاف السنين كانت ولازالت دولة مركزية يحكمها هيكل تراتبي لا يتغير فيه إلا رأس الدولة فقط في كل الأحيان عندما تدق ساعة التغيير الذي ما كان يتم إلا بصراع داخل قصر الحكم بين متنافسين على السلطة من البيت الواحد، أو يتولى قائد الجيوش للسلطة فيما نعرفه الآن ب (الانقلاب) أو يتم التغيير (الشكلي) بالاغتيال.. ومع ذلك يبقى النظام (الهيكلي) قائماً.. ولم تعرف مصر - حسب معلوماتي - ثورات شعبية عنيفة نجحت في تغيير النظام طوال تاريخ الدولة المصرية، وإن عرفت ثورات عنيفة ومثمرة في مواجهة الاحتلال القديم والحديث، وحققت مصر من خلال تلك الثورات - أنظمة وشعباً - انتصارات تاريخية ظلت مدونة على كتب التاريخ بمداد من ذهب، ومن بينها حرب رمضان أو حرب أكتوبر في العام 1973م، التي لعب فيها اللواء طيار - وقتها - محمد حسني مبارك دوراً عظيماً وكبيراً عندما كان قائداً لسلاح الطيران وحقق إنجازاً عظيماً بضرب مطارات العدو الصهيوني وشكل حماية لكل جيوش مصر البرية. عرفت مصر انتفاضات شعبية قوية، شهدتُ اثنين منها في العامين 1974م و1979م ضد الرئيس الراحل أنور السادات لكن تلك الانتفاضات لم تحقق تغييراً في نظام الحكم ولا في هيكل الدولة وإن قادت إلى إصلاحات اقتصادية واجتماعية وسياسية، أعادت الأحزاب وجعلت الدولة تطبق سياسة التحرير الاقتصادي وغير ذلك. لا نعرف إلى أين ستنتهي الأحداث في مصر أو إلى أين تقود - لكن دقة التنظيم في الحراك والتظاهر الذي عم أكثر المدن المصرية يشير إلى أن هناك جهة ما أو أن يداً خفية تحرك الأحداث حيث تشاء.. ونحسب أن الأمر لن يقف عند مصر لأن بذور (الفوضى الخلاقة) تم بذرها في كل وطننا العربي من المحيط إلى الخليج.. وإذا لم نع ما يراد بنا وبأمتنا.. فعلينا وعلى دنيانا السلام. المطلوب من كل أنظمتنا الحاكمة أن تعمل على تخفيف أعباء المعيشة على المواطن المقهور المغلوب على أمره الذي لا يريد أكثر من الحياة الكريمة في المأكل والمشرب والملبس والعلاج والتعليم وبقية الخدمات مع توفير فرص العمل للجميع وتوفير الحريات العامة وأولها حرية الصحافة وحرية التعبير وتحديد أجل الرئاسات الممتدة إلى ما لا نهاية، والاعتراف بالآخر مهما كان الخلاف معه في الفكر أو العقيدة.. هذا بعض ما يجعلنا نقطع الطريق على المؤامرات التي تستهدفنا جميعاً ولا تستثني أحداً.