تماماً كما توقعنا بالأمس وتحفظنا بالقول: إنه من المبكر الحكم على مآلات ما يجري في مصر منذ الآن، فنحن نعلم أن مصر تنوء عبر مئات السنين تحت حكم مؤسسات طابعها الديمومة والرسوخ، حتى تحولت إلى عبء وحملٍ ثقيل على كل من يحاول هزها أو اقتلاعها، وفي مقدمتها جهاز الدولة الأهم المتمثل في القوات المسلحة وجهاز الأمن المصري الذي ظل يحكم مصر منذ عهد عبد الناصر، في مطلع خمسينيات القرن الماضي، وهو نفس المؤسسة التي تمكنت من إطاحة النظام الملكي وتأسيس الجمهورية. «التمرين الديمقراطي» الساخن والرائع الذي انخرط فيه شباب مصر بالأمس والذي انتهى في نهاية اليوم إلى هزيمة شرطة مكافحة الشغب والبوليس السري والأمن المركزي التي اضطرت إلى الانسحاب مع غروب شمس «جمعة الغضب» كان يستحق «مكافأة» وجائزة أكبر من تلك التي خرج بها الرئيس مبارك بعد منتصف الليل وبعد ساعات من الانتظار القلق والمتوجس من جميع المراقبين. خرج الرئيس مبارك بعد انسحاب الشرطة والأمن المركزي وبعد إنزال الجيش إلى الشوارع وتأمين الميادين والمنشآت والمرافق الكبرى، نزولاً لقى ترحيباً من المتظاهرين المحتجين وصل درجة العناق مع الجنود والتعلق بذيول الدبابات والعربات المدرعة، مع رفع أعلام مصر من الجنود على آلياتهم ومن المتظاهرين المحتفين بوصول الجيش، تعبيراً عن الثقة بالقوات المسلحة التي عكستها هتافات من قبيل «الجيش والشعب يداً بيد»، فهل كانت تلك هي الحقيقة والإجابة عن التساؤل الأهم عن معنى نزول الجيش، هل تدخل لحماية الشباب الثائر وتأمين البلاد أم أن الهدف هو حماية النظام، ذات النظام الذي يرفع المتظاهرون شعار إسقاطه: «الشعب يريد إسقاط النظام» ذلك الهتاف الداوي، وربما الوحيد الذي انطلق من حناجر المحتجين، بعد سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى في مدن الجمهورية في القاهرة والاسكندرية وفي السويس على وجه الخصوص. خرج الرئيس مبارك على الشعب ليعبر عن أسفه لسقوط «الضحايا من الأبرياء وقوات الشرطة» وأمن على التزام الحكومة بتعليماته حول احترام حق الشعب في التعبير السلمي في إطار القانون، ومفسراً: أن هذه المظاهرات ما كان يمكن لها أن تتم «لولا مساحة الحرية» ومشيراً: إلى الخيط الرفيع الذي يفصل بين «حرية التعبير والفوضى»، ومؤكداً: أن مصر هي أكبر دول منطقتها سكاناً ودوراً وثقلاً وتأثيراً وهي «دولة مؤسسات» يحكمها القانون والدستور، ومندداً: بأعمال التخريب التي يقوم بها من يندسون بين الشباب الذي أهاب بهم لمراعاة مصالح الوطن والتصدي لحماية مكتسباته لأن إشعال الحرائق والاعتداءات على الممتلكات لن تحقق تطلعات شباب مصر كما قال، ومذكراً: بأن «طريق الإصلاح» الذي اختاروه لا رجوع عنه و«سنمضي عليه بخطوات جديدة»، وبعد كل هذا «المقال الصحفي» الممتاز خلص الرئيس مبارك إلى قرار واحد ووحيد أبلغ به شعب مصر المنتفض- قبلي وبحري- قرار يقول بأنه «طلب من الحكومة الاستقالة اليوم (الجمعة) وسأكلف غداً حكومة جديدة» فاختصر الأمر كله في إقالة حكومة وتكليف أخرى، وكأن انتفاضة الشعب المصري كانت من أجل تغيير «حكومة نظيف». لم يتحدث مبارك أو يقترب من القضايا الجوهرية التي فجرت الانتفاضة والتي تستحق أن يتخذ حولها القرارات في ظل نظام رئاسي يجمع كل السلطات في يده كرئيس للجمهورية، لم يتحدث عن تعديل الدستور ليغدو أكثر ديمقراطية خصوصاً المادة (72) المتصلة بمدة الدورة الرئاسية، ولم يتحدث عن مجلس الشعب والانتخابات الأخيرة التي أتت بما يقارب 97 في المائة إلى مقاعده، دون أن نرى أثراً ولو بنسة 5% من أولئك الذين حملوا هؤلاء إلى تلك المقاعد يدافعون عنه، مثلما لم نر الملايين الذين صدع بها الناطقون باسم الحزب الوطني الحاكم يخرجون للدفاع عن مقار أحزابهم الرئيسية والفرعية في القاهرة ومدن الجمهورية، اختفت تلك الملايين بغتة واحدة لتؤكد أنها ليست أكثر من أرقام «يفبركها» أو يتخيلها أولئك الناطقون. لكن الحقيقة الأهم التي يجب أن تسترعي انتباه كل من راقب الأحداث التي شهدتها مصر في «جمعة الغضب» والأيام الثلاثة التي سبقتها هي أن مصر لا يحكمها هذا الحزب المسمى «الوطني الديمقراطي» الذي لا يملك حتى «حق الدفاع عن النفس» بل تحكمها أجهزة أخرى تخرج إلى الشارع وتواجه المحتجين على وجود ذلك «الهيكل المفرغ» الذي يطلق عليه زوراً وبهتاناً «الحزب الحاكم»، تحكمها جزئياً أجهزة الأمن والقبضة الأمنية الشرطية التي واجهت هبة الشارع وانهزمت أمامها، ليخرج من ثم «الحاكم الأعظم» القوات المسلحة ومن خلفه جهاز الأمن والمخابرات ليقولا: نحن ما زلنا هنا، ويحاولا إفهام المحتجين بلطف ودبلوماسية أنه لا سبيل لتغيير النظام كما يطالبون، واللافت أن الجيش قد نزل إلى الشارع بعد عودة رئيس الأركان المصري من واشنطن حيث عقد اجتماعات هناك مع نظرائه في البنتاغون. من الوقائع التي شدت انتباه المراقبين، في «جمعة الغضب» المصري هذه، هو غياب الحكومة المصرية أو أي ناطق باسمها يخرج للناس محاولاً شرح ما يحدث أو يهديء من روع الشارع، بينما كانت الأخبار تترى من واشنطن، حيث صدرت بيانات عديدة من المسؤولين الأمريكيين بدءاً من الرئيس أوباما والبيت الأبيض ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ السيناتور جون كيري ورئيسة لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب إليانا روس والناطق الرسمي باسم البيت الأبيض روبرت غيبس الذي عقد مؤتمراً صحافياً، وصبت جل تلك البيانات والإفادات في التعبير عن قلق واشنطن لما يجري في مصر وطالبت بعدم اللجوء للعنف من جانب السلطات المصرية وكذلك من جانب المحتجين وأكدت على حق المصريين في التعبير السلمي عن مشاغلهم واحتجاجاتهم ومظالمهم كما أوضحت كلينتون، وألمحت من طرف خفي إلى احتمال وقف المساعدات الأمريكية لمصر إذا لم تستجب للإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي طالب بها الرئيس أوباما ووزير خارجيته كما أشار غيبس في مؤتمره الصحافي الذي أكد فيه مراراً أنهم يراقبون التطورات الجارية في مصر عن كثب. مثلما كان لافتاً نفيه أنه لا الرئيس أوباما ولا الوزير كلينتون قد اتصل بالرئيس مبارك شخصياً حتى ذلك الوقت، كما شجب جميع أولئك المسؤولين الأمريكيين تعليق مصر للاتصالات الهاتفية وخدمة الانترنت، وهو تعليق لجأ إليه المسؤولون المصريون «استفادة من الدرس الإيراني والتونسي» حيث أن خدمة الموبايل يمكن أن تكون وسيلة لكشف ما يدور من ممارسات على الأرض ونشرها في كل أرجاء العالم. لم يكن من السهل على واشنطن، ومن ورائها وأمامها تل أبيب، أن ترى أي تغيير جوهري وجذري يتم في مصر، فذلك قد يعني بالإضافة إلى تعليق اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية إن لم يكن إلغاؤها، اختلال المعادلة الاستراتيجية في المنطقة كلها، وهي منطقة تقع في صلب وقلب الأمن القومي الأمريكي، حيث مصادر الطاقة الحيوية لدورة الاقتصاد والصناعة الأمريكية والأوربية وللحرب ضد الإرهاب وللصراع الناشب بين الولاياتالمتحدة وإيران حول الملف النووي، وبالتالي فإن واشنطن كانت على استعداد لفعل كل شيء من أجل إنقاذ الموقف حتى أن الرئيس أوباما أمضى يومه أمس أمام فريق لإدارة الأزمات شكله خصيصاً لمتابعة الموقف، ولم يتصل كما قال غيبس بالرئيس مبارك إلا في وقت متأخر، وربما كان ذلك هو السبب وراء ذلك الانتظار الطويل لخطاب مبارك، ولابد أن أوباما أبلغ وجهة نظره كاملة حول الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي يطالب بها، فأخذ منها مبارك ما يريد، واقتصر الأمر على حل الحكومة كخطوة أولية. وليس تلك هي المرة الأولى التي تقول فيها مصر «لا» لبعض ما تطلبه واشنطن.. ودعونا ننتظر تشكيل الحكومة!.