لا تزال أصداء الثورة الشعبية المصرية تُجلجل في الآفاق، فالتحولات الكبرى لا يحتكر أثرها مكان ولا يحاصر امتداداتها زمان، بل تظل تزحفُ وتسبحُ وتحلّق متخطية الجغرافيا ومتأبطة التاريخ غير معْنية بتحليل مراقب أو تحسبات رقيب. لكن ولكي تندرج الثورة المصرية ضمن تصنيفات «التحولات الكبرى» فيبدو أن هناك العديد من المهام الملحة والقضايا العاجلة التي ينبغي عليها إنجازها ووضعها موضع التنفيذ، حتى يتسنى لها التقدم بخطى واثقة إلى أهدافها الكبيرة وغاياتها النبيلة على طريق الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية. من خلال متابعتي للمناقشات والحوارات التي ازدحمت بها قنوات التلفزة الفضائية في اليوم الأول لانتصار الثورة بعد رحيل رأس النظام المصري المشير حسني مبارك، لاحظت لحسن الحظ وعياً راسخاً وإدراكاً قوياً لدى جميع الفعاليات الناشطة في الثورة من جيل الشباب، ومن الكهول المحيطين بهم والحادبين على تأمين هذا الإنجاز الوطني والقومي الكبير، بأهمية استمرار البناء على ما تحقق، وتطويره وتصويبه باتجاه إنجاز تلك الأهداف والغايات، مع التحسب الفَطِن لاحتمالات التراجع والانتكاس إذا ما تم التراخي أو الإهمال في متابعة المهام الملحة والقضايا العاجلة التي يشكل عنصر الوقت فيها سيفاً مسلطاً على رقبة الثورة وأعناق الثوار، إن يلتقطوا «اللحظة الثورية»، يوفوها حقها وينجزوا واجباتها الآن.. الآن وقبل فوات الأوان. أبرز دلائل هذا الوعي والإدراك، هو ذلك البيان الصادر من ائتلاف ناشطي ثورة 25 يناير، والذي أوجز المهام العاجلة للثورة في مطالب محددة ومؤطرة ومتناسقة في عدد من النقاط، عكف على إعدادها الشباب بمعاونة ذوي الخبرة السياسية والقانونية تمثلت في: إلغاء حالة الطوارئ ،محاكمة من أجرموا خلال الثورة ومن أفسدوا الحياة السياسية ونهبوا أموال الشعب، حل مجلس الشعب، تشكيل حكومة انتقالة من شخصيات مؤتمنة وطنياً وتتمتع بالكفاءة العلمية والفنية المطلوبة وبالاستقلال، التنقيح الفوري لحكومة الفريق أحمد شفيق، التي عينها المجلس الأعلى للقوات المسلحة لحكومة «تصريف أعمال»، من رموز الفساد إلى حين تشكيل حكومة جديدة، إبطال جهاز أمن الدولة الحالي، تمهيداً لإنشاء جهاز جديد لحماية الأمن الوطني يعمل في إطار القانون ويلتزم بواجباته الدستورية، وتنبع أهمية وضرورة المطلبين الأخيرين- تنقيح حكومة شفيق والإسراع بتشكيل حكومة جديدة، وإبطال عمل جهاز أمن الدولة- من حقيقة أن كليهما قد تم تشكيله من قبل النظام المخلوع لخدمة أهدافه وأجندته وحماية بيضته. ولفتني في هذا المقام، إيراد الدكتور أبو العز الحريري أحد قادة حزب التجمع الوحدوي في ندوة بقناة «المحور» المصرية المستقلة للحكمة القديمة القائلة بأن «الثورة إذا حققت نصف أهدافها فهي ثورة فاشلة» ناهيك عن أن الثورة المصرية الراهنة لم تحقق سوى هدفها الأول الذي هو رحيل رأس النظام، معبراً بذلك عن خطر الاستسلام لبعض الأوهام القائلة بانتصار الثورة طالما رحل الرئيس مبارك، بينما استبعد الدكتور مرسي منصور، المحاضر بعدد من الجامعات الأمريكية في مجال إدارة الموارد البشرية، أن تكون الثورة المصرية معرضة للانتكاس لأنها تعبر عن الذكاء الجمعي والإرادة الجماعية للشعب المصري ذي الحضارة الضاربة الجذور في تاريخ البشرية، ولذلك انتصرت على أقوى «نظام بوليسي» في المنطقة وربما في العالم، وقَدَّر أنه من الصعب الالتفاف عليها وخنقها قبل إنجاز كامل أهدافها. أما قضية ملاحقة المجرمين الذين فتكوا بالشباب الثائر وولغوا في دمائه وقتلوا منه أكثر من «300» شهيد وأصابوا الآلاف منهم بالأذى الجسيم والجراح، وأولئك الذين تحلّقوا حول النظام ورئيسه المخلوع وعاثوا في الأرض فساداً واستأثروا بثروات البلاد وخيراتها وأفقروا الشعب، فقد احتلت هي الأخرى حيزاً كبيراً من البحث والنقاش، وبدأ تدفق المعلومات والأدلة الدامغة حولها من العديد من المواطنين والمسؤولين السابقين على حد سواء من أمثلة ذلك، ما قاله اللواء «شرطة» فاروق حافظ النائب السابق بمجلس الشعب وأحد مسؤولي جهاز الرقابة الإدارية سابقاً، الذي أوضح في إفادته لبرنامج «الحقيقة» بقناة المحور الذي يقدمه الأستاذ وائل الأبراشي الصحافي بمؤسسة روز اليوسف، بأن الرئيس مبارك عندما تولى الرئاسة لأول عهده كان حريصاً ودقيقاً وحاسماً، وكان عندما يقدمون له ملفاً من ملفات المخالفات المالية والإدارية يوجههم بحسم الأمر على الفور، ولكنه في أوقات لاحقة، وتحديداً في فترتين معلومتين، بدأ يتراخى في مسألة ملاحقة الفساد والمفسدين، أدار الفترة الأولى الممتدة من 1989 إلى 1997 ابنه الأكبر علاء، الذي بدأ دوره يتراجع نسبياً، ليتصدر الفترة الثانية التي تبدأ مع بداية التسعينات وتشتد وتيرتها بحلول عام 1999م ابنه الثاني و «خليفة المنتظر» جمال مبارك، فقد عُمِّد من قبل المفسدين، وفي طليعتهم الملياردير أمين التنظيم في الحزب الحاكم أحمد عز، باعتباره «رجل الاقتصاد الأول»، فأصبح الرئيس مبارك يردد دائماً أن «جمال يساعده في إدارة شؤون الاقتصاد». كما شهدت تلك الفترة ظهور أخطبوط اقتصادي آخر هو «حسين سالم» أحد أصدقاء الرئيس المقربين، والذي بدأ أعماله بمحطة لتحلية المياه لينطلق من ثم للاستفراد ببناء مدينة شرم الشيخ السياحية، وأعد من ضمنها استراحة رئاسية للسيد مبارك، ولينتقل بعد ذلك للعمل في مجال البترول ويؤسس لأنابيب الغاز لتصديره إلى إسرائيل. المعلومات المتدفقة على أجهزة الإعلام المحلية والعربية والأجنبية لا يكاد يحصيها العد ولا تستوعبها مساحة مقال أو حتى كتاب، وجميعها تندرج في إطار القضايا الملحة والعاجلة، مما جعل أحدهم يقترح تشكيل «وزارة لمكافحة الفساد»، ولكن كان لافتاً اتصال على الهواء، جرى بين إحدى القنوات الفضائية والتشكيلي الدكتور خميس حسين المصري المتزوج من فرنسية تدعى «أوليفيا»،الذي حكى قصة مقتل زوجته الحامل في شهورها الأخيرة بأيدي المتظاهرين المصريين والعرب، الذين هاجموا منزل الرئيس مبارك القريب من السفارة المصرية في باريس جراء الغضب الذي فجّره القمع والجرائم التي اقترفها النظام بحق المتظاهرين في القاهرة، وحاول هو - وبحكم معرفته للقوانين الفرنسية - حماية هؤلاء المتظاهرين من الإقدام على مهاجمة المنزل، حتى لا يتعرضوا لرصاص الشرطة الفرنسية التي تتعامل في مثل هذه الأحوال بالذخيرة الحيّة، ففهم المتظاهرون خطأً أنه نزل لحماية منزل الرئيس، وكانت زوجته أصرت على مرافقته، فإذا به وزوجته يتعرضان للضرب ليفيق بعدها ليرى زوجته ممدة إلى جانبه وقد فارقت الحياة هي وجنينها. تحدث الرجل باكياً ويعاني من شعور بالذنب، وتمنى لو أنه لم ينزل لتنبيه المتظاهرين، ولكنه فاجأ القناة ومشاهديها بمعلومة جديدة وهي أن الرئيس وأسرته يملكون أيضاً منزلاً في باريس، كما في لندن وأنحاء عديدة في أرجاء المعمورة. المهم في كل ذلك،أن نشطاء ثورة الخامس والعشرين من يناير مدركون تماماً لخطورة المرحلة وقضاياها العاجلة، وأن عيون الصحافة والإعلام في مصر وخارجها ساهرة لا تنام ومتابعة للتطورات، وأن الثوار عاقدون العزم على مواصلة الثورة وفق مقتضيات الحال حتى يستيقنوا أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة سيوفي بعهده وينجز وعده القائل بأن «لا بديل للشرعية التي يرتضيها الشعب»، وهي شرعية تقوم على إنجاز المهام العاجلة وفق جدول زمني معلوم تمهيداً للاستحقاقات الكبرى للتحول الديمقراطي والعدالة الاجتماعية المنتظرة.