هذا مقال جديد لابن أخي الأستاذ خباب محمد أحمد النعمان حول الثورتين المصرية والتونسية، وقراءة لتداعياتهما على مجمل المنطقة، مقال «محمل» بالتأملات الذاتية والملاحظات المعاصرة، المتصلة بطبائع الاستبداد وقيم الحرية وأدب الثورات.. فإلى المقال: بينما ينفق الأكاديميون أوقاتاً عديدة في تفسير وتأطير مناهج لعلم الثورة و عواملها والظروف المواتية لها، أو مايسمى بنقطة التلاشي وخيار الصفر، ويشحنون الكتب بألفاظ المعاظلة والجدال على شاكلة: هل الوعي بالثورة أم ثورة الوعي أم الاثنان معاً هما من يصنعان التغيير ؟؟ .. آثرت الذوات الثائرة في تونس ومصر أن تهجم على مفهوم التغيير مباشرة دون أدنى وصاية نظرية، وأن تترك للفعل الثوري بحريته الذاتية أن يشكل الأنموذج الباهر ويسطره بمداد الدموع والدماء، فهو أصدق وأوثق من الأسانيد المتقطعة والروابط المنطقية المهترئة، لأنه الواقع بذاته دون تحريف أو تزييف .. الواقع في حقيقته وبداهته وبساطته تحت عنوان «الشعب يُريد إسقاط النظام»، وهي جُملة على بداهتها لتعتاص على أفهام الطغاة، ولذلك ليس بمستغرب أن ترد في خطابات الإطاحة ل«بن علي ومبارك» مفردتي «أنا فهمتكم» و «أنا أعي تطلعات الشعب» ذات النسق المتماثل على مستوى الفكر وعلى مستوى بناء الكلام، وفيه دليل قاطع على تماهي الذوات الديكتاتورية وإستقائها من نبع ثقافي واحد ليس هو فقط بيت ابن أبي ربيعة «إنما العاجز من لا يستبد»، وليست كذلك هي القاعدة الأثيرة التي حاد عنها معظم الطغاة العرب ولم يستقصوا آثارها ويستبينوا نصحها إلا ضحى الغدِ والمنسوبة لمعاوية بن أبي سفيان : إن الناس أعطونا سلطاننا، فأظهرنا لهم حِلماً تحته غضب، وأظهروا لنا طاعة تحتها حقد، فبعناهم هذا بهذا، وباعونا هذا بهذا، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ثم لا ندري أتكون لنا الدائرة أم علينا. (ابن كثير: البداية والنهاية. ليس هذا فحسب بل لهم إرث متثاقل يتناقله المستبدون كابراً عن كابر .. قياصرتهم وأكاسرتهم وغسسانتهم وفراعنتهم ولكل منهم خاصية مميزة فمنهم من يُري شعبه ما يرى قسراً ويُلزمه ما لايلزم .. ومنهم من يقتّل الأبناء ويستحيِّ النساء .. ومنهم من يستضعف طائفة ويستعلي أخرى .. ومنهم من يستأثر بكل شيء .. ,, لكنهم يستوون جميعاً فيما قاله أبو الطيب يصف كافوراً : - «أمَيناً وإخلافاً وغدراً وخسة .. وجبناً أشخصاً لُحت لي أم مخازيا»و ليس الثوار بدعاً فلهم من المرجعيات والآثار عالية الموثوقية ما لو أُستنفد العمر لحصرها لأعيتنا مجرد الإشارة والإثارة، لكن يكفي ما قاله سيد الثوار المعاصرين تشي جيفارا أنا لا أوافق على ما تقول .. لكني سأبذل روحي ثمناً حتى تقول ما تريد إنها قيم الثورة وثورة القيم التي انتشرت كالنار على هشيم الأوضاع البالية وما ثورتا تونس ومصر إلا نماذج مبدئية لما يعتمل في جوف الشعوب من حُرق وحمم متشظية، إن لم تخرج وفق مساربها لقضت على اليابس واليابس إذ ليس ثمة أخضر في ظل ظلم أسود يُغطي على العالم بأسره .. لكن يبقى أهم ما يستفاد من هذه الروح الثورية المستشرية .. هو سقوط نظرية مهاتير محمد في جدوى حكم المستبد العادل لبلادنا بحجة عدم إستيفائها لمطلوبات الحرية وقصورها عن مداركها بعيدة المنال إذ ثبت بالدليل القاطع عدم وجود مستبد عادل إلا في مخيلته هو فضلاً عن وجود مستبد عاجز في كل بلد يجره للوراء إذ أن مقلوب بيت عمر إبن أبي ربيعة يبدو أقرب في وصف الواقع إنما العاجز من يستبد « وبالتالي » إنما العادل من لا يستبد وما يستفاد من هذه النماذج أيضاً سقوط عقيدة التثليث السياسية التي يحكم بها معظم الطغاة العرب « تحالف : الأمن والسوق والعشيرة» وأحياناً بصورة أضيق: «الشوكة الأمنية الضاربة، الأسرة الصغيرة المتنفذة، وطبقة رجال الأعمال المستفيدة» أو ما طفق يقوله هيكل واصفاً الأنظمة العربية: سلطة نائمة في حضن المال ومال نائم في حضن السلطة.. وكذلك ما يستفاد منها هو سقوط نظرية جدوى إسترضاء الغرب وإستعداء الشعب، فقد آن الآوان أن يُستجاب لدعوة الدكتور النفيسي للحكام من التطهر من رجس العمالة والإرتهان ومضاجعة الشيطان والعودة إلى الذات بكل ما يعني ذلك من تضحيات .. لكن يبقى لبزوغ شمس الثورة من تونس الخضراء دلالة لا تخطئها بصيرة ففيه تجسير للفجوة المعرفية والقطيعة الوجدانية بين المشرق العربي ومغربه وتجاوزاً للمساجلات التاريخية حول الأفضلية الثقافية والإسهام الحضاري لكليهما .. وفيه دلالة ذوقية وفق المصطلح الصوفي إذ يجب البحث عن روح الثورة التي أبت إلا أن تأرز إلى ديار تونس وقد شرب من رحيقها الخلاق أبو القاسم الشابي فانثالت فيوض الإلهام الثوري شعراً رقيقاً وعبارة مفعمة بالحيوية : «إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ** ولابد للليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر ** ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر**».. ويخطيء من يأوّل هذا النص ناصع الدلالة والإيحاء على غير حقيقة معناه فقد سمعت أحد جلاوزة جلد الذات وفضحها وتثبيطها يقول على الاتجاه المعاكس إن الشعوب استكانت لهذا النداء الشابي وآثرت انتظار التغيير بما تجيء به الأقدار وتجود به المشيئة، وهذا ليس بصحيح فالقصيدة برمتها تعيد تصحيح العلاقة بين الأقدار والأفعال، فمثلما أن ظلم الطغاة قدر فانتفاضة الشعوب قدر مناهض، وقد ردد عبد القادر الجيلاني أكثر من مرة عندما رأى جموع المتصوفة تركن إلى التواكل والاستسلام «إني أدافع الأقدار بالأقدار»، لذا فإن الشعبين التونسي والمصري بثورتيهما هذه قد حطّما أحد أضخم الأوثان وصنعا قدرهما بأيديهما وبغير أدنى مساعدة من غرب أوشرق إذ صوبا مسار التاريخ وأعادا للشعب بريقه ودوره المفقود.. نعم .. لقد قالا بما لايدع مجالاً للشك: الشعب يصنع قدره بنفسه.. بيده.. بعقله.. وبروحه.. فالشعب على قول عزمي بشارة في تحليله الثاقب لمسار الثورة المصرية هو الذات الفاعلة بالتاريخ وهو من يصنع الحدث.. وما السلطة إلا ظلالاً باهتة لفعل الثوار.. فالشعب مرجو منه استكمال منجزات ثورته واسترعاء دماء شهدائها الأبرار وأن يظل هو الذات الفاعلة وهو صانع الأحداث، ومع ذلك عليه ألا يسترسل للطلاقة مع روح الثورة والانقياد لجموحها، وأن يستوعب تعقيدات الواقع فما لا يُدرك جله لا يُترك كله .. أما السلطة الانتقالية «المجلس العسكري» التي تمخضت عن ثورة 25 يناير فمطلوب منها أن لا تحاول الالتفاف على مكتسبات الثورة.. فالشعب أذكى من أن تنطلي عليه أحاييل الساسة وهو الذي انتتفض يقوّم مسار السياسة والاقتصاد ويعيدهما لنصابهما القويم .. .. ولنا عودة خباب النعمان