صدحت موسيقى الشرطة أمام بيتنا بعد ظهر يوم الخميس واستطلعت الأمر، فإذا بموكب صغير يتقدمه موترسايكل التشريفة وتتوسطه حافلة صغيرة مزدانة بالألوان وخلفها شاحنة نصف نقل عليها فرقة موسيقية بأزيائها المميزة تعزف ألحاناً شجية، وخرج عليهم عمر البشير في كامل زينته يرتدي زيّاً بحرياً مقصباً ومذهباً يحمل رتبة الأدميرال ويتشح «بوشاح» مكتوب عليه الروضة الذهبية وأمه «وشاح»، تطلق من خلفه الزغاريد، وانطلق الموكب ليحمل عمر البشير وأقرانه نحو حفل التخريج بعد عامين أمضاهما في روضته الذهبية ليحمل شهادة إكمال التعليم قبل المدرسي.. وفي المساء يممنا وجوهنا شطر الحفل المقام بهذه المناسبة، وكان حفلاً بهيجاً وحاشداً خاطبه الأستاذ السموأل خلف الله وزير الثقافة الاتحادي.. ولكن!! ü عندما كنا صغاراً كانت طريقة تقدير عمرنا لكي ندخل «الخلوة» هي أن تلامس أطراف أصابعنا اليمنى الأذن اليسرى مروراً من فوق الرأس.. أو العكس، أي أن تلامس أصابع اليد اليسرى الأذن اليمنى، ما يعنى إكمال خمسة أعوام.. ومنذ اليوم الأول في الخلوة تكتمل عملية التسليم والاستلام بين شيخ الخلوة وولي الأمر بالعبارة المعهودة «ليك اللحم ولينا العضم»، ويا لها من صفقة مرعبة.. ميزانية الخلوة تأتي من الهبات والشرافة ولا مصاريف ملزمة.. فالأدوات والمعدات الدراسية غاية في البساطة.. التجليس أرضاً للطلاب و للفكي مقلوبة أو عنقريب صغير قصير لا يرتفع عن الأرض كثيراً.. الكتاب المدرسي محفوظ في صدر الفكي وشيوخ الحيران وهم كبار الطلاب.. الكراسات عبارة عن ألواح خشبية والأقلام مصنوعة من القصب.. الحبر أو «العَمَار» مصنوع من السَخَم أو السَكَن أو السَجَم، يستخرج من الدُواك جمع دوكة مضافاً إليه الماء والصمغ وصوف الغنم.. الإضاءة تنبعث من نار التُقَّابة، التي يجمع حطبها الطلاب.. ساعات الدراسة من الفجر وحتى الظهر ومن العصر حتى العشاء يومياً عدا مساء يوم الخميس ونهار الجمعة.. والعطلات الدينية في العيدين والمولد النبوي.. المقرر تعلم القراءة والكتابة ومبادئ الفقه والحساب ومبادئ النحو وحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب.. الفئة العمرية غير محددة النهاية.. الوسائل التلقين والكتابة بالأصبع على الأرض، ومن ثم الانتقال للكتابة على اللوح بالعمار، وحفظ ماكتبته ثم عرضه على الشيخ ومسحه بالماء بعد ذلك.. ويُستفاد من ماء غسل الألواح في العلاج والتبرك.. الثواب والعقاب ممنهج إذ يبدأ الثواب بالدعاء للطلاب وأن يمسح الشيخ على رأس الطالب.. وعند بلوغه «ألم يكن» سورة البينة يُزين له اللوح بالألوان والأصباغ المحلية، ويسمح له بحمل اللوح خارج الخلوة وترافقه تشريفه من زملائه ليعرض ما استظهره لكبار أفراد أسرته وأهل القرية الذين يقدمون له الهدايا من تمر وقمح وذرة، وقليل من النقود تعريفة وقرش وفريني «قرشان»، وكل ما يحصل عليه من هدايا هي للشيخ كاملة غير منقوصة وإلا فإن الفَلَقَة ستكون من نصيبه.. والفلقة من أخطر أجهزة القمع في الخلوة وهي عبارة عن خشبة بطول متر مثبّتٌ عليها حبلان يُربط بهما القدمان، ليكون الضرب في باطن القدمين.. وبقية أدوات العقاب هي السوط والعصا والسبحة، وربما «القيد الحديدي» إذا استمر تمرد الطالب أو أصابه مسٌ من الجنون.. وبانتشار التعليم النظامي أصبح صوت الخلوة خافتاً، ودورها منقوصاً في معظم أرجاء السودان، ما عدا الجزيرة وكردفان ففيها خلاوي مشهورة وبقية الخلاوي استثناء يرتادها أبناء دارفور والدول المجاورة، بعدما استنكف بقية المواطنين من أن ينتسب أبناؤهم للخلاوي.. ومع قرار الرئيس بتعيين الحفظة في درجة الخريج الجامعي، إلا أن محصلتهم الأكاديمية بجانب استظهار القرآن كانت ضعيفة جداً في بقية العلوم، الشيء الذي لا يؤهلهم لتولي الوظائف الحكومية.. وقد اجتهد بعض العلماء الأفاضل ورائدهم الشيخ عبد الجليل النذير الكاروي في تطوير أسلوب الخلوة بالمدارس القرآنية، وهي تجربة جد ناجحة لكنها لم تعمم بالصورة المطلوبة لتنداح فائدتها ويعم نفعها.. ولكن!! أنا مدين للخلوة بالكثير ولن تنمحي من ذاكرتي ما حييت صورة خلوة شيخنا أحمد ود الجنيد.. وشيخنا محجوب ود حاج الحسين.. وحُمَّد صالح شيخنا الفالح.. في خلوة القاضي بمروي شرق.. وأنا كذلك شاكر ومقدر للروضة الذهبية التي تلقى فيها عمر البشير تعليمه قبل المدرسي، ولكن كان هذا بمقابل مادي باهظ جداً تستحقه الروضة عن طيب خاطر، فالبيئة الدراسية والإشراف اللصيق والتعليم الحديث والترحيل المضمون والتربية العلمية السلمية والضوابط الدقيقة والحفاوة البالغة والحفلات الترفيهية والزيارات والرحلات التعليمية حتى لا نقول العلمية، كلها تصب في صالح الروضة والرياض المشابهة وحلال عليهم ما يأخذونه من أموال.. ففي المقابل الفصول الآيلة للسقوط.. والمعلمين المغلوبين على أمرهم.. والمرتبات غير المجزية.. والكتاب المدرسي والتجليس، يضفي كل ذلك جواً غير صالح وبيئة طاردة.. والسبب مجانية التعليم «المزعومة»، فالأمر برمته يحتاج إلى إعادة نظر من الدولة والقائمين على أمر التعليم وأولياء الأمور «من الموسرين».. فلو ذهبت أموال التعليم الخاص إلى خزانة الدولة لانتفع بها الكثيرون، لو أحسنت الدولة إنفاقها على الوجه السليم.. مضافاً إليها الميزانيات المرصودة أصلاً للتعليم.. فالتكافل الذي يميز الخلاوي يجعل التعليم حقاً مشاعاً للجميع.. ولجان القبول «زمان» كانت تتكون من المعلمين والآباء في كل مدرسة ينظرون في حالة الطلاب الاجتماعية، فمنهم من يُقبل بالمجان وآخر بربع المصاريف أو نصفها أو كلها، وتتحكم الدولة في المناهج وتأهيل المعلمين بل وتنقلاتهم وتوفير الكتاب المدرسي، أما الآن فالأمر مختلف، إذ أصبح التعليم الحكومي طارداً والتعليم الخاص رائجاً لمن استطاع إليه سبيلاً!! مصاريف الاحتفالات وحدها تكفي لتعليم آلاف الطلاب الفقراء. كم أنا سعيد بتخريج عمر البشير وقد أجاد حفظ جزء عمَّ وبعض الآيات المختارة وبعض الأحاديث والأدعية المأثورة مثل إجادته للوضوء والصلاة.. وبعض السلوكيات الحميدة.. ومبادئ الكتابة والقراءة باللغتين العربية والإنجليزية وبعض الحركات الرياضية والحساب.. لكنها سعادة منقوصة فكم من أتراب عمر البشير لا يجدون معشار ما وجده عمر؟؟ لا أدعو لأحياء «الخلوة والعودة الحلوة» واسمها في الحقيقة العودة المرة.. لكن شيخنا البروفسير أحمد علي الأمام اختار لكتابه اسم «الخلوة والعودة الحلوة»، لأنه رجل فنان مرهف متعه الله بالصحة والعافية.. والتحية للدكتور الطيب إبراهيم محمد خير وهو يُنهي الخطوات الأخيرة من رسالته للحصول على شهادة الدكتوراة في منهج استظهار القرآن الكريم. كان يوم الخميس من أسعد أيام الخلوة.. وكنا نردد.. يوم الخميس.. صفقة ورقيص.. للمطاميس.. فقد كانت لفظة «يا مطموس» نعتاً لكل فتى مشاغب.. وللحيران حكايات مع الفتة أم شطة حَمَتْنا النَّطة والفتَّة أم توم حمتنا النوم.. وألم تر كَيْفَ كِسره رِهَيْفة.. جداده سمينه تغدي فكينا.. ألا ليت الشباب يعود يوماً.. وتكافل التعليم حتى يصبح كالماء والهواء. وهذا هو المفروض