رعى الله تلك الأيام.. وسقى الله مصر من سليل الفراديس ماء غدقاً حلوا لا ينقطع ولا ينقص..! وحفظ الله أرض الكنانة من كل شر وأذى وجنبها المزالق والفتن، وحفظ ثورتها وثروتها من الطامعين والأعداء الموتورين الحاقدين.. ونسأل الله ألاَّ يطيل بقاء العسكر في السلطة وأن يوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولاً.. وألاَّ يدخل عليهم الطمع وحب السلطة فتطول إقامتهم ونعود إلى المربع الأول.. فلا خيلاً بلغت ولاركاباً..! اللهم لا تجهض هذه الثورة المباركة ولا تخذل هذا الشباب النابه الذكي الغيور، ولا تدخل اليأس في قلوب المصريين والعرب أجمعين.. من الصعب أن يترجل قائد أو رئيس منتخب أو مؤقت عن كرسي الحكم بسهولة، بل يزين لنفسه ويزين له كثيرون من حوله أن بقاءه من مصلحة الشعب والأمة، وأن استمراره في الحكم فيه منافع كثيرة للبلاد والعباد.. ويجد الكثير من المسوغات والأهواء التي تجعله يتشبث بهذه السلطة، ويجد كثيراً من الحيل التي تبقيه حاكماً مطلقاً لعقود طويلة.. وفي التاريخ القديم والحديث الكثير من الحالات التي أبقت كثيراً من الحكام المؤقتين والطارئين حكاماً في السلطة لسنوات وعقود، ولم يقوموا بتسليم الحكم لأي جهة حزبية منتخبة أوغيرها، بل ظلوا يواصلون الحكم بالقوة العسكرية حتى قبض الله روحهم وخلص العباد من شرورهم.. فهل ينكر المجلس الأعلى العسكري في مصر للشعب المصري ويتلكأ في تسليم السلطة بعد الشهور الستة التي تم تحديدها أم نظل نسمع نغمة أن البلاد غير مؤهلة للانتخابات ولقيام حكومة منتخبة من الشعب لعقود أخر قادمات..! وهاهو وطننا العربي يُشعل الآن ثورة تكنس في طريقها كل الطغاة والأزلام وعبيد السلطان وتنابلته والمتحلقين حوله.. المسبحين بفضله ونعمته عليهم.. هل استيقظ شعبنا العربي أخيراً من نومه ومن سباته الطويل، فأراد بعد رقاد طويل أن ينتصر لكرامته ولحياته ولأمته المجددة المتجددة..أم لم يكن نائماً كما كنا نظن بل كان متوثباً منتظراً فرصة الإنقضاض والاشتعال.. وهل كان المحرض الأخير على ثورة الشعوب في الوطن العربي هو موقع ويكيليكس.. الذي فضح حكام العالم القاصي والداني.. وأصبح كتاب الكثيرين منهم مفتوحاً بين يدي الملأ من كل جنس وملة..! وهل كانت تونس مركز الزلزال الذي أطاح بعرش الطغمة الحاكمة في مصر..؟ أم أن الزلازل والبراكين تجري وتفور تحت الأرض فلا أحد على سطحها ينتبه لما يجري تحته..! وهل كان أحد يصدق أن تونس ومن بعدُ جارتها ليبيا ستخرج صوتها الهادر الداوي من كهوف صمتها، فلم يعرف صاحب الصوت أن هذا الصوت القوي هو صوته.. وأن هذا الهدير من عنده وليس من عند الجيران.. تحسس الشعب صوته فأدرك أنه قادر على النطق وأنه صوت هادر قوي.. فلم يُقطع لسانه كما قطعت يده وفقئت عينه فلم يملك غير عين واحدة يرى بها حسنات النظام ورئيس النظام.. ولقد دمعت العيون ونحن نشاهد عبر التلفاز مسجد الجامعة في العاصمة تونس، وقد علا من مايكرفونه صوت المؤذن الذي غاب عنه وغابت عنه الصلاة لسنوات..! ومن المحزن والمثير للشفقة أن الذي منع الصلاة والآذان هرب إلى حيث يتجه المصلون للصلاة إلى البيت الحرام، ولكنه لم يدخل البيت الحرام ولم يقترب منه..! ورجع الشيخ راشد الغنوشي إلى تونس بعد عقود من المنع.. ورجع فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي إلى مصر وخطب في الناس في ميدان التحرير بعد عقود من المنع..! لا أثر لمبارك في مصر، ولا أثر لزين العابدين بن علي في تونس.. وكلاهما أو احدهما خارج حدود وطنه الذي كان له فيه اليد المطلقة والطولى براً وبحراً وجواً..! وانفرط العقد النضيد وهرب تنابلة السلطان وأعوانه وزمرته الفاسدة في البلدين، وضاقت بهم الأرض بما رحبت..! كان الشاب التونسي الوسيم وشاعرها الفريد أبو القاسم الشابي حاضراً في المشهد التونسي وفي المشهد العربي كله.. فكأن الشابي كان قائداً لثورة تونس ولثورة مصر ومن خلفه في مصر رفيق سنوات عمره الهمشري، وكان في السودان التجاني يوسف بشير.. ولكن كل الشعوب وقفت عند الشابي ومعه- إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر.. ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر- لقد استجاب الله العلي القدير مالك الملك فنزع الملك من طاغيتين، وكسر قيد وذل كل الشعوب وليس شعباً واحداً أو شعبين.. والحبل على الجرار فلابد أن ينال الطغاة جزاء ما يصنعون بهذه الشعوب الفقيرة الصابرة الرائعة.. وماهي المحطة القادمة للثورة..؟ من سيترجل عن عرشه وحكمه ويفر هارباً أو يدخل في غيبوبة لا يخرج منها..؟ الله وحده أعلم بمآلات ومصير الحكام والملوك والرؤساء.. فهو الذي يهب الملك لمن يشأء وينزعه ممن يشاء.. لا يشاركه في قدرته أحد من عباده بل له الأمر المطلق والحكم المطلق.. وقد يطول بقاء الظالم حتى يتحول إلى فرعون آخر يسوم شعبه ألوان العذاب.. ويظن أنه الحاكم الأوحد وأنه هبة الله للشعوب.. فينزع الله تعالى منه الملك نزعاً قاسياً مؤلماً ثم يدخله النار مع فرعون وهامان في الدرك الأسفل من النار وبين يدي ملائكة غلاظ شداد..! وقد لا يجد الظالم فرصة يرى فيها المظلوم وقد انتصر، فسرعان ما يدخل في غيبوبة قد تطول أو تقصر إلى أن يلقى الله عز وجل فينال حسابه.. وقد لا يصدق الظالم أن هذا المواطن الأعزل الفقير عاري الصدر وحاسر الرأس، قد هد عرشه وقضى على نظام ملكه العضوض المحروس بعشرات الآلاف من الرجال العتاة ومن الأسلحة الفتاكة.. هل كان مبارك يتخيل يوما أن شباباً دون أسلحة ومن ميدان ليس له مايميزه غير اسمه ستنطلق ثورة هادرة لم تتوقف إلا بعد زواله، وهل كان معمر القذافي يصدق أن شعبه سيخرج عليه وأنه لا مرتزقته ولا جنوده قادرون على إيقاف هذه الثورة التي لا مثيل لها بين ثورات الشعوب العر بية..!