للإنسان السوداني ما يميزه عن باقي خلق الله أجمعين فحق له أن يفخر فهو إبن هذه الأرض العظيمة والتي حملت على ظهرها حضارة الإنسان الأول وتراث المجد والخلود وشعاع العلم والمعرفة .. هذه الأرض المزيج من سكون كثبان رملية على مد البصر تتمدد على أطرافها الأرض الطينية حين يحن الإنسان إلى أصله أنبتت خضرةً تسُر العين وأينعت ثمار بساتينها وتطاول نخيلها بأعناقه فخراً وإباء وكبرياء، وفي كبد هذه الأرض الشاسعة تتمدد تلةٌ أرضيةٌ مرتفعة أفصحت عن حضارة دنقلا العجوز .. وحضارة دنقلا العجوز هي صرة ذلك الطفل المعجزة والذي ولد عملاقاً .. فكانت أرض العجائب والأسرار .. أرض المعارك والحكمة النوبية .. سماحة المسيحية القديمة.. وشموخ الإسلام .. أرض رماة الحدق الذين لا تخطئ سهامهم ما بين العين والحاجب .. صوت حداء طيور القمري ووحشة خفافيشها التي سكنت قباب الأولياء الصالحين لمئات السنين .. دنقلا العجوز التي علمت حضارات الشعوب الأخرى الدرس حينما إختارت كنيستها المسيحية القديمة أن تقتسم نصفها مسجداً يصلي فيه المسلمون.. على محرابها شهد التاريخ بتوقيع إتفاقية البقط .. هي مستقبلة الأديان الثلاثة .. أرض العجائب والطبيعة الخلابة والقصص والأساطير، سنأخذ دنقلا نموذجاً نتباهى به لكل تلك الحضارة السودانية القديمة حضارة الحضارة نحكي بلهفة محب عن أرض لا تشببهها أي أرضٍ في العالم، وخبير الآثار العالمي البروفيسور شارلس بونيه قال مقولته الشهيرة:(الحضارة أصلها سوداني) ولقد كان ذلك في أواخر التسعينيات بمكتب أستاذنا الدكتور يوسف حسن مدني(متعه الله بالعافية) بالأفرو إيشن حينما كنا طلاباً بجامعة الخرطوم وبحضور الأخ الأستاذ فريد محمد أحمد خبير الآثار واللغة النوبية وعضو هيئة ذاكرة الوطن العربي، ومقولة البروف تدفعنا للبحث والرجوع آلاف السنين وليس لمجرد حصر المسألة في الأركيولوجي بل تتجاوزه لإستدعاء تلك القيم النبيلة التي حملها إنسان السودان الأول من شجاعة وإتقان للعمل وحكمة عريقة ، إنها ليست بكاءً على الأطلال ولا هي رثاء لحضارة ذهبت أدراج الرياح فسودان اليوم صاحب ثوب ممزق يحتاج الرتق ونحن نرى ونسمع اليوم القصص المروعة ذات الطابع الحيواني من إنسان السودان الحديث وكأن قيم الحضارة التي حملها أجداده قد تساقطت منه تساقط الطلاء من الحوائط فدونكم سادتي ما حدثنا به المؤرخون من أن الملك السوداني بعانخي قد غزا مصر الفرعونية وحكمها من بعده ترهاقا وتانوت وذلك بسبب أن الفراعنة كانوا يسيئون معاملة الحيوانات وأن فرساً قد ماتت على يد سيدها بعد أن أوسعها ضرباً ! فإن صحت هذه الرواية فإن إنسان السودان القديم قد بلغ من العظمة مرحلة أن يحرك جيوشاً لنصرة الحيوان الضعيف !! والآن دعونا سادتي ننظر ملياً لواقع اليوم والقيم الأخلاقية في هذا السودان الجديد الذي نرى بعضاً من ملامحه (شاب يقتل أبوه بالعكاز) و(زوجة تقتل زوجها بالإتفاق مع عشيقها)و(ثلاثة شباب يضعون أمهم العجوز في ملجأ للعجزة والمسنين بعد أن رفضت زوجاتهم الإعتناء بها) و(طالب يصفع أستاذه الجامعي بعد أن طلب منه أن لا يأكل العلكة داخل قاعة المحاضرة) !! (ورجل يفر من زوجته وأطفاله تاركهم للمجهول لمصلحة فتاة هي في عمر أصغر بناته)! كما أصبح من المسلمات إنتفاء تقدير الرجل لضعف المرأة بل إن الكثير من العجائب وما لا يصدق أضحت جزء من ثقافة وأخلاقيات المجتمع السوداني الحديث وإن كان من شيء يدعو للحسرة فإننا نكاد نموت حسرةً على قيمنا النبيلة التي أضحت تتساقط كأوراق شجرة في الخريف !! فإستشرت بيننا الأنانية وحب الذات والبخل والنفاق الإجتماعي والعنصرية المقيتة وحتى قيم الدين ظلمت حينما أختزلت في مظهر لا يعبر بالضرورة عن جوهر صاحبه وإنتشرت النميمة والغيرة بين الزملاء في العمل فتحولت ساحات العمل من خدمة الناس إلى دهاليز تحاك فيها المؤامرات ضد الزملاء من أجل إقصائهم وفساد يزكم الأنوف وعمارات إستطالت لبعض الناس لا يستطيعون بمالهم الحلال أن يبنوها ولو عمروا ألف سنة! فالحاجة سادتي للرجوع إلى قيم ومثل حضارية تنصب الضمير إماماً لهي خير مرتجى لأمة حضارية ورسالية وشعب طيب وهبه الله قلباً يكبر في مساحته السودان .. شعب كريم كان أجدى بكل الحكومات المتعاقبة أن تحترم عقله وبنية وعيه الخلاق بأن تفتح له المكتبات وتغلق بالشمع الأحمر المعتقلات !! ألم يقل شارلس بونيه أن الحضارة أصلها سوداني؟!!.