لست متشائماً ولكن استبدال السفير برينستون ليمان بالجنرال سكوت غرايشن في ظني لا يحمل خيراً للسودان، فالمبعوث السابق غرايشن تميز عن كل المبعوثين الأمريكيين الذين سبقوه، فقد تولى ملف السودان وهو خالي الذهن من أية أحكام وأفكار سالبة مسبقة، وكان حريصاً في أول زيارة له للبلاد على الوقوف على الأوضاع ميدانياً للتعرف على المشهد وفقاً لما يراه ويسمعه هو دون الحاجة إلى وسطاء، وقد أتيحت لي فرصة مرافقة الرجل في زيارته الأولى إلى دارفور، فكان شديد الحرص على سبر غور الأوضاع هناك على الأرض رغم محاولات القائم بالأعمال الأمريكي السابق سيء الذكر (فيرنانديز) لتقديم صورة جاهزة غير حقيقية للوضع هناك، ولمحت في وجه الرجل مرات عديدة أمارات الضيق والتبرم وعدم الرضا من تصرفات(فيرنانديز) الذي كان يعزف ضمن جوقة مجموعة سوزان رايس المعادية للسودان. غرايشن كان قد خلف ريتشارد ويليامسون الذي كان من أسوأ المبعوثين، فهو الذي وصف المسؤولين السودانيين بأنهم مجموعة (thugs) أي (بلطجية)، وقدم وصفة سرية للرئيس السابق بوش كشفتها (نيويورك تايمز) لاحقاً سماها بوصفة الموت، اقترح فيها الرجل فرض حصار بحري على السودان وإيقاف صادراته النفطية التي قال إن الحكومة تستخدم عائداتها في (الإبادة الجماعية) في دارفور، كما اقترح قطع الاتصالات عن الخرطوم وعزلها عن باقي السودان للإطاحة بالحكومة السودانية واستبدالها بنظام حليف لواشنطون. وكنت قد ذكرت في هذه المساحة من قبل حين جرى تسريب أمريكي قبل شهور من إجراء استفتاء جنوب السودان عن احتمال استبدال غرايشن بمبعوث آخر، قلت إن غرايشن سيستمر في منصبه إلى حين إجراء استفتاء جنوب السودان وإعلان النتيجة وضمان انفصال الجنوب، لأن واشنطون كانت لا ترغب في حدوث أي (عصلجة) من جانب الحكومة السودانية بخصوص تطبيق ما تبقى من بنود اتفاقية السلام الشامل، وصمام الأمان في تحقيق هذا الهدف الأمريكي كان هو استمرار غرايشن في مهمته بإيقاعه الهاديء وعزفه الذي كان يطرب الخرطوم. أما وقد أُجريّ الاستفتاء وأعلنت نتائجه التي جاءت لصالح الانفصال وتبقت ثلاثة أشهر فقط على الإعلان (الرسمي) للدولة الجديدة في جنوب السودان، فإن مهمة غرايشن في السودان تكون قد انتهت ولابد من أن يخلفه شخص آخر مناسب للقيام بالمهمة الأكبر في المرحلة المقبلة التي يصبح فيها السودان الحالي دولتين منفصلتين تقول كل المؤشرات الحالية أنهما لن تكونا على وفاق على الأقل في السنوات الأولى.. وبالتالي سيكون السفير ليمان مبعوثاً أمريكياً لدولتي السودان الشمالية والجنوبية، وستكون مهمته مشابهة لمهمة المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط (جورج ميتشيل)، يحابي دولة الجنوب كما يفعل ميتشيل مع إسرائيل ويضغط على دولة الشمال كما يضغط الأخير على الفلسطينيين.. وهو وضع معوج ولن يكون في مصلحة السودان الشمالي أبداً. ولا اعتقد ولا أتوقع أن يبني المبعوث الجديد (ليمان) على إرث سلفه غرايشن لسبب بسيط وهو أن اختياره جاء بضغط من المجموعة المعادية للسودان، وتتويجاً لمساعٍ حثيثة ومحمومة قادتها هذه المجموعة لإقصاء غرايشن الذي ترى أنه مجرد حمامة سلام مهيضة الجناح لابد من استبدالها بصقر جارح قوي يستطيع الطيران في سماء السودان التي ستشتد العواصف فيها في مقبل الأيام، وستتلبد بغيوم ومواجهات(الفوضى الخلاقة) حسب توقعاتهم، لذلك لا يمكن أن ترضى هذه المجموعة أن يبدأ(رجلها) من حيث انتهى غرايشن، بل سيبدأ من حيث تريد هذه المجموعة وإلا فلا معنى إذاً لهذا التغيير. إن (الميس) الذي رسمه غرايشن للسودان لشطب اسمه من لائحة الإرهاب ورفع العقوبات الاقتصادية عنه وتطبيع العلاقات بين البلدين، هذا(الميس) قد وصلته الحكومة بجدارة مع غرايشن، فهي قد أجرت الاستفتاء وقبلت بنتيجته طوعاً واختياراً ولا شيء في الأفق يشير إلى احتمال(خرخرة) من جانبها، ولكن ورغم ذلك سيرسم (ليمان) ميساً آخر ستراه الحكومة مثلما ترى السراب كلما تقدمت إليه بعُد عنها.. وليس في الدنيا كلها من يفوق الأمريكان في المماطلة والمماحكة، فيمكن أن تستمر هذه المماطلة لتستغرق ما تبقى من (عُهْدة) الرئيس أوباما التي مضى نصفها الآن و(الحال ياهو نفس الحال) محلك سر، ووعود تأخذ بعضها برقاب بعض دون أن يعقبها وفاء. قلنا من قبل ونكررها مرة أخرى على الحكومة ألا تشتري السمك الأمريكي وهو في قاع المحيط، وألا تجهد نفسها في السعي اللاهث وراء السراب الأمريكي، وألا تهدر مواردها عشماً في(خير) يأتي إليها من أمريكا، وألا تدخل الوعود الأمريكية في خانة(الموجب) في حساباتها، لأن النتيجة معروفة في هذه الحالة.. أصفار كبيرة كبر حجم الكذب الأمريكي المتطاول الذي ليست له نهاية.