مبدأ الشفافية الذي تتبناه الكثير من القوى السياسية والحزبية، هو مبدأ مطلوب في العمل العام، لكن أكثر هذه القوى والتنظيمات والأحزاب لا تلتزم بتطبيق هذا المبدأ الذي لا يجعل شيئاً خلف ستار. عالم اليوم لم يُعد فيه مكان للسرية، ولا مكان للأفعال الخفية، خاصة للمشتغلين بالعمل العام، فالعيون تنظر، والآذان ترهف السمع، والأنوف تشم الروائح المثيرة، ولو كانت على بعد ألف ميل، وأصبح هناك اكتشاف جديد اسمه الإنترنت، واكتشاف آخر مذهل اسمه الهاتف الجوال، الذي يمكنك من استقبال وارسال المحادثات في أية بقعة من العالم، وله (كاميرا خفية) وخطيرة تسجل ما لا يخطر على بال شرطة أو بشر، وتدفع بما سجلته الى شبكة الإنترنت والى مواقع (الفيس بوك) و(التويتر)، ولا يملك من تم التسجيل له إلا أن يستسلم أو يظل يدعو طوال ليله ونهاره على الذي كان السبب! يسألني زملاء وزميلات كُثر في الصحافة أو في البرامج الإذاعية والتلفزيونية، أو حتى الندوات أسئلة عديدة وكثيرة من شاكلة (أين وكيف ولماذا عملت بالصحافة..؟ وهل للبيئة التي نشأت فيها أثر في ذلك الأمر؟ وما هي صلتي أو علاقتي بالإذاعة أو التلفزيون.. أو أم درمان أوالطرق الصوفية وشرق السودان)... الى آخر الأسئلة التي من تلك الشاكلة.. لكنني كنت أرد دائماً بأن حياة أي منا في السودان كتاب مفتوح، لا تطوى صفحاته حتى بعد الموت، إذ نتناقل السيرة والتاريخ شفاهة من الآباء حتى آخر جد أو حبوبة.. السودان بطبيعة تكوينه مجتمع شفاف أو شبه شفاف، لا أسرار كثيرة فيه، حتى وإن أقمنا لها الحصون أو بيوت الأسرار في الصحف، والسر الذي يصل الى الصحافة عندنا، يكون كثيرون قد ألموا بتفاصيله، وتكون أجهزة حساسة ومختصة مثل أجهزة الأمن على علم بتفاصيل تفاصيله، ولا يبقى للصحيفة في مثل هذه الحالات إلا الاحتفاظ ب(حق النشر). العالم الآن مع المخترعات الحديثة لم تعد فيه أسرار وراء الأسوار، وقد جاء في أنباء الأمس التي تابعتها على شبكة المعلومات أن الرئيس التشيكي فاتسلاف كلاوس قام بسرقة قلم كان أمامه خلال حديثه في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره التشيلي سيبستيان بينيرا، الذي كان مندمجاً في إلقاء خطابه، وقد رصدت الكاميرات الرئيس التشيكي يفتح علبة القلم الذي كان أمامه ويلتقطها بيمناه ويحيلها الى يسراه، ثم الى جيب البدلة في حركة سريعة وخفة يد يحسده عليها الحواة. وكاميرات الفيديو والتلفزيون والموبايل كانت بالمرصاد لرئيس وزراء ايطاليا سيلفيو برلوسكوني، وهو يدخل الى المنتجعات الخاصة في يده حسناء، ويخرج منها وفي يده أخرى، والصحافة هناك تقوم ولا تقعد بسبب فضائح رئيس الوزراء الذي يضرب بالقيم والمثل وكل شيء عرض الحائط، ويجري وراء ملذاته التي لا يرى غيرها أمامه. يوم أمس استقال نائب في البرلمان الأندونيسي من موقعه بعد أن ضبطته الكاميرات قبل أيام وهو يشاهد صوراً إباحية على جهاز الكمبيوتر الخاص به في جلسة برلمانية ساخنة، انصرف عن متابعتها الى متابعة المشاهد الأشد سخونة، وكان يتابع ذلك وهو ممسك بجهاز كمبيوتره الخاص ويخفيه أسفل الطاولة في جلسة الجمعة الماضية. العالم يتجه نحو شفافية من نوع عجيب، تضع شاغلي المواقع العامة في (وش المدفع)، تحصي أنفاسهم وتعد خطواتهم، وتطالبهم أن يكونوا ملائكة في عالم تسكنه الشياطين.