الواجب الأول بالسودان - شماله وجنوبه- هو التأكد من استكمال بنود اتفاقية السلام الشامل والعمل المشترك، استعداداً لإعلان مولد دولة جديدة تملك مقومات البقاء والاستمرار في الجنوب.. توِّجت الجهود التي بذلت حتى الآن بالاستفتاء واختيار الجنوبيين للانفصال، وأعلن فخامة الرئيس البشير قبول الدولة الأم لذلك وعزمها على مساندة الجنوب في شتى المجالات. أصيب أعداء السلام في السودان بصدمة، لأن توقعاتهم بالمجازر وأنهار الدماء لم تتحقق وانهالت تصريحات الإشادة بالطريقة التي أُجري بها الاستفتاء حتى إعلان النتيجة. ولعل أبرز إشادة هي تلك التي قال فيها الرئيس باراك أوباما إن ما حدث بالسودان ملهم للعالم كله. دورالسياسيين وكل السودانيين النشطين في الحياة العامة هو تفادي الاستفزاز والتخلي عن أي فعل أو قول يزعزع التآلف بين شقي البلاد أو يسعى لإعادة إشعال النار المدمرة التي أنهاها سلام عام 2005.وقد ارتفع مؤشر التوتر ليوم 12 مارس الماضي، حينما أعلن الأستاذ باقان أموم الأمين العام للحركة الشعبية «والوزير المسؤول عن السلام في حكومة الجنوب» أن الشمال -والرئيس البشير شخصياً- يسعى لتدبير انقلاب يطيح حكومة الجنوب قبل إعلان استقلال الجنوب رسمياً يوم 9 يوليو المقبل، عقد سيادته مؤتمراً صحفياً قال فيه إن الاتهام تثبته وثائق دامغة، ونقلت وقائع المؤتمر الصحفي الوسائل الإعلامية المشبوهة التي أُسست خصيصاً لزعزعة استقرار السودان «وعلى رأسها موقع سودان تربيون الباريسي». أعقب ذلك المؤتمر الصحفي انسحاب الحركة الشعبية من المفاوضات الرامية للتوصل لحل سلمي للقضايا العالقة. صمتت الحركة الشعبية بعد ذلك عن الوثائق إلى أن كتب ألان بوزويل لمجلة تايم الأمريكية مقالة عنوانها «جنوب السودان: هل ستؤدي الحرية إلى حرب أهلية؟» لخص فيه التمرد المتعدد في جنوب السودان وقال إن أساس التمرد صراعات جنوبية- جنوبية وليس تحريضاً شمالياً.. اقتطف رأي الأستاذة كارول بيرجر التي تعد دراسة عن الحركة الشعبية وجيشها «إن العنف في الجنوب ناجم عن قضايا لم تحل داخل الجيش الشعبي نفسه». تطرقت مقالة بوزويل في مجلة تايم يوم 28 مارس لاتهامات باقان أموم ولوثائقه التي عرضها على الإعلام.. كتب بوزويل: «يدعي جيش الحركة أن المتمردين يحركهم الشمال، وقد انسحب الأمين العام باقان أموم من مفاوضات مع الشمال حول إجراءات إعلان الانفصال في شهر يوليو، متهماً الخرطوم بالسعي للإطاحة بحكومة الجنوب، لكن الخبراء المستقلين الذين رأوا الوثائق -التي تزعم أن الشمال يساند أتور- توصلوا إلى أنها وثائق مزورة بطريقة فجة وغير محكمة». جاء في المقالة أيضاً أن الولاياتالمتحدة أيدت سلام السودان، لكن الوضع الآن قد يؤدي إلى مولد «دولة جنوبية في منتهى الهشاشة وذات نزاعات داخلية عنيفة»، وذكر في هذا السياق إن الجماعات المتمردة في أربع ولايات من ولايات الجنوب العشر قد توحدت تحت قيادة واحدة وأنها سوف تصدر بياناً بأهدافها. جدير بالذكر أن موقع صوت أمريكا الحكومي الرسمي قد أعاد نشر هذه المقالة فور صدورها -وفي ذلك مغزى. يثير موضوع الوثائق المزوَّرة عدة أسئلة، لم يستوثق الأستاذ باقان أموم من صحة الوثائق قبل أن يعرضها على الإعلام، وهل من الحنكة السياسية أن تنسحب الحركة من المفاوضات قبل التأكد من صحة الوثائق؟ وهل سيعتذر سيادته للشمال وللرئيس البشير ويسحب الاتهام المبني على الانتحال؟ وهل ستجري الحركة الشعبية تحقيقاً في الجهة المسؤولة عن التزوير وتتخذ إجراءات تضمن عدم تكرار هذا الأسلوب؟ ما نتمناه هو أن يستخلص الأمين العام للحركة الشعبية من هذه التجربة - المحرجة له شخصياً ولحزبه وللسودان كله- دروساً تدفعه إلى التروي والابتعاد عن إثارة الاتهامات والاستفزاز، فالسودان يمر بمرحلة في منتهى الحساسية، وهي مرحلة تاريخية بحق، وعلى كل المشاركين في إدارتها التحلي بأكبر قدر من الصبر والحكمة في سبيل مولد دولة جنوبية راسخة ومسالمة للشمال. فالعالم يتجه نحو التجمعات والوحدات الأكبر، وليس نحو التفتت والتشتت، ويحق لنا أن نحلم بتقارب لدول القرن الأفريقي وتقارب وتكامل لدول حوض النيل تتناقص فيه الحواجز، ويلتقي داخل إطارة شقا السودان على طريق الوحدة الأفريقية التي ستنجزها الأجيال القادمة.