شعورالعودة من الفاشر لا يضاهى، مثله مثل كل سفر مبرور، إن الطائرة بألوانها الزاهية وطاقمها الأنيق والضيافة التي بدأت بكوب العصير وصحف الخرطوم بثت فى نفوسنا الطمأنينة تماماً، مثل ما فعلت الفاشر طوال الأيام الماضية، حافظت الطائرة بذلك على الأثر الرائع لتداعيات تلك الأجواء التى عشناها فى كنف أيام عزيزة بلياليها البهيجة فى خواتيم العام الذى مضى قبل أيام قليلة، فجعلتنا الفاشر- وهى تتعافى من بقايا جراحها- نذكره بالخير. على طريقة ( هات من الآخر) بدأت بحديث طائرة العودة لإحساسي الغامر الآن تحت تأثير انطباعاتي الشخصية وأنا ازور الفاشر للمرة الثانية خلال ثلاث سنوات تعتبر فاصلة فى مسار قضية دارفور، مما جعل المقارنة مسيطرة على انطباعاتي. وتتلخص هذه الانطباعات فى أنني مع من قال ( إن المواصلات هى الحضارة ) وهى حكمة تصلح للاستعارة لنقول (إن المواصلات هى السلام) خاصة مع ما يوحي به مشهد الطائرات المحلقة فى سماء دارفور آناء الليل وأطراف النهار، ومشهد السيارات الحديثة التى تجوب طرقات المدينة لوقت متأخر من الليل، و( حالة) الاتصال بأحدث ما يتعاطى العالم من الوسائل الرقمية... فالهاتف الرقمي الجوال من الممتلكات الشخصية للناس( بدون فرز) والقنوات الفضائية والإذاعات وراء كل حدث جديد، بدليل انتشار أخبار الدورة المدرسية مصورة وبلغة الواقع، وفى صدارة حتى أعتى الصحف الأوربية، فأي شىء هو السلام؟. الرحلة للفاشر هذه الأيام حكاية تستحق أن تروى، لمن أراد أن يسمع خيراً، ويطمئن على ذلك الركن الآمن من السودان اليوم، ومن العالم كذلك، وقد عرف تاريخياً بأنه زاخر بالخير والعطاء والتميز. الأحوال فى شمال دارفور اليوم كما شاهدتها على مدى أسبوع عمل متواصل ليلاً يسبقه النهار ويخلفه، ومع جموع مؤثرة تربوياً وثقافياً وعمرياً جاءوا من مختلف أرجاء البلاد، تبدو كحال من جاءت فرصته ليحكي للناس على طريقة ( ليس من شاهد كمن سمع)... ومن الألف الى الياء يطيب الحديث عن دارفور اليوم . نعود لأصل الحكاية فنقول.. إن رحلة العودة بهذا الطراز من الطائرات الجديدة التى تزين مطار الفاشر، وتحترم الراكب وتتحدى ظروف الحرب، وتشيع مناخ السلام، لهي مما يليق بزائر فاشر السلطان، وهى ترتدي حلة جديدة على شرف الاستقلال والدورة المدرسية، وبشائر الدوحة التى على الأبواب، وجميعها مما يبقى فى الذاكرة ويثير الذكريات. الوصول لمطار الفاشر كان أيضا شيئاً يبقى فى الذاكرة، فلقد فاجأنا الوالي الأستاذ محمد يوسف كبر على باب الطائرة الضخمة الأليفة لنا جميعاً، حيث اسمها (القصواء)، ذلك المركب الذى استبشرت به البشرية... الوالي كأنه يقول إن بيته يبدأ من هنا. المدهش أنه بقي على السلم يسلِّم ويتبسم حتى آخر راكب، والإحصائية تقول إنهم ( ما شاء الله) يتقدمهم وزير التعليم العام الدكتور حامد محمد إبراهيم والأستاذ جمال محمود المدير العام للنشاط الطلابي، قائد فريق هندسة الدورة الحالية والسابقة، وقد تعاقبتا لأول مرة فى غضون عام واحد، بعد أن كان عهدها أن تنعقد كل عامين، وقد تتمهل أو يتناسى الناس شأنها، وجمال هذا راهن فى مؤتمره الصحفي عقب الوصول، إن دورة جوبا قائمة وبنهج مختلف، وغير مسبوق(كمان). أخذنا الوالي مباشرة إلى بيته، بعد أن اطمأن على أن أبناء الوزير وبناته الذين فاقوا المائتين عدداً، ورأى كل منهم أسرة بكاملها اتخذت قرارها بشجاعة انحيازاً للتربية ولدارفور وللنسيج القومى، وجلسوا أمام الفضائية السودانية يرقبون هذا الفوج الجديد من طلاب الولايات انضموا للمرافىء الدافئة التى صممت باريحية أهل الفاشر المعروفة لاستيعاب نحواً من ثمانية آلاف من تلاميذ وطلاب السودان، هم قوام الدورة المدرسية القومية التى حملت الرقم 21 وانعقدت بالفاشر بناء على طلب الولاية. الرقم 21 تفاءل به الوالي، وكشف عن ذلك فى خطاب الافتتاح وذكر الناس بالذهب الخالص، الذى يقال عنه أنه من نفس عيار دورة الفاشر 21 ... قال الوالي: إن الدورة حملت رقماً فردياً، وصنفت المنتسبين لها بأنهم من الذهب الخالص، ثم قال إنها جاءت بمثابة الدواء لجراحات دارفور، وأخرجتها الى آفاق الحياة والإخاء والسلام المستدام.. ودعا بقية الفصائل للحاق بقطار السلام المنطلق من الدوحة بإذن الله. وكان هذا لسان حال الطلاب أيضاً. شاركت جميع الولايات الشمالية بتنوعها الثقافى المدهش، وتجلت ابداعاتها فى مهرجان الإفتتاح الذى خاطبه ممثل رئيس الجمهورية ومساعده الدكتور نافع على نافع، ووزير التعليم الاتحادي ووزير التربية والتعليم بالولاية، وأبرزت الفقرات قدرات المعلمين والمعلمات فى تقديم مهرجان طلابي إبداعي كان يستعان عليه بالخبراء الأجانب فى السابق. استاد الفاشر وقد أعيد تأهيله على شرف الدورة ضاق بالحضور، وقد جاءوا من ثماني عشرة ولاية، وازدحم بايقاعات التنوع الثقافى الباذخ المطور فى الولايات، وقد عبر عنه مضمون التعليق بصوت بكر لمذيعين ومذيعات من أهل المهنة والتميز. وصاحب ذلك عروض لفرسان على ظهر الخيول ومشهد تاريخي يعبر عن( المحمل) ذاك الذى نالت به الفضل والسبق دارفور السلطان تاريخياً، والى يوم دورتنا المدرسية هذه التى استعصمت بمآثر شعبنا كل شيء جاء منطلقاً من المآثر والقيم بهيجاً ومتقناً وحاشداً شكلاً وموضوعاً، ولكن اكتشاف غياب الولايات الجنوبية بعد ذلك أثار التساؤلات، وكان رد الوالي أنهم لم يعتذروا وأن مقاعدهم محجوزة مازالت فى الطائرات، وفى مواقع السكن المجهزة، وبين جوانح أهل دارفوروصدورهم المفتوحة لكل أبناء الوطن، ولكن أسئلة الصحافيين لا تتوقف، والتأويل لا ينقطع . ما أثر ذلك على فكرة (الوحدة الوطنية) التى اتخذتها الدورة هدفاً أساسياً استراتيجياً منذ أن بدأت فى أوائل السبعينات من القرن الماضى فى سعيها الدؤوب لتربية الطلاب، على حب الوطن الواحد وتنميته وتعزيز هويته.. . البعض بدأ يتنبأ بأن ذلك قد يؤثر فى قيام الدورة القادمة، وقد حددت مدينة جوبا مكاناً لها لتعقد متزامنة مع عيد الاستقلال القادم. الوالي يقول فى مؤتمره الصحفي إن ذلك لم يؤثر سلباً على مسار دورة الفاشر، والواقع أنها مضت فى فعالياتها على أروع ما يكون، كما شهدنا فى مهرجان الافتتاح وميادين المسابقات الرياضية والثقافية والتقنية، وعلى المسرح حيث تفتحت ألف زهرة وزهرة، وعبر مفاجآت البرنامج المصاحب بتاءاته الأربع ( تواصل، تعارف، تفاكر، وتفاعل) . إن أبرز ملامح البرنامج المصاحب وهو دورة داخل الدورة، تجلت فى زيارة المعسكرات من جانب طلاب الولايات، وتعزيز مشاريع العودة الطوعية والتواصل مع مجتمع الفاشر، وملتقيات التفاكر والتسامر بين وفود الولايات، وتبادل الهدايا والأفكار، حول اهتمامات الطلاب وقضايا التربية، وقيم أهل دارفور والولاية المضيفة.. وللشعوب الصديقة مشاركات مرتقبة . أي شيء هو الضيافة عند أهل دارفور؟ وأي شيء هو الثقافة الدارفورية، وأي شيء هو( مجلس السلطان) الذى كان، ومجلس السلطان الآن كما شهدناه وشاركنا فيه فى بيت الوالي وبحضوره الكثيف يومياً عقب صلاة الفجر. ونختم على طريقة ( هذا هو الموجز) .