برزت فكرة حق جنوب السودان في (التميز) في إطار السودان الموحد، برزت أول ما برزت في خطاب بنجامين لوكي رئيس المؤتمر الجنوبي بتأريخ 16 نوفمبر 1954م - قبل أكثر من عام من إعلان الاستقلال - إلى الحاكم العام البريطاني ووزيري الخارجية المصري والبريطاني حيث دعا إلى مراعاة وضع الجنوب الإثني والثقافي عند تقرير مصير السودان.. ثم قام السيد بنجامين نفسه عشية الاستقلال ومن خلال الجلسة التأريخية للبرلمان الذي يمثل فيه دائرة (ياي) بالإستوائية، حيث أقترح الآتي:(أن يتضمن إعلان الاستقلال بياناً يعلن فيه عن قيام دولة فدرالية تضم الجنوب والشمال في إطار سودان موحد). رفضت الأحزاب السودانية وقتها - حكومة ومعارضة - هذا المقترح الجنوبي، غير أنها وافقت بسبب إلحاح الجنوبيون على إضافة فقرة في إعلان الاستقلال بأخذ مطلب الجنوب بالحكم الفدرالي بعين الاعتبار عند صياغة دستور السودان الجديد، الأمر الذي رفضته لجنة صياغة الدستور لاحقاً بحجة أن مضار الحكم الفدرالي أكثر من المصالح المتوقعة.. وقد اجتهد الأعضاء الجنوبيين الثلاثة بلجنة صياغة الدستور، في إزالة مخاوف أهل السودان بأن الجنوب لا يرغب في الانفصال ولا يضمر أية نوايا سيئة للشمال ولكن رغبة الجنوبيين في التعبير عن ظروفهم وبيئتهم الخاصة والإسهام في حكم منطقتهم بالطريقة التي تطمئنهم في إطار السودان الموحد. ذهبت كل المبررات (الموضوعية) أدراج الرياح واصطدمت بصخرة ضخمة من الشك والريبة وعدم الموضوعية والهروب من مناقشة الأمر بشجاعة، بل انصرفت الحكومة الوطنية الأولى إلى تجريم كل جنوبي يدعو للفدرالية وكتم كل الأصوات المنادية بذلك وأندفع السياسيون أصحاب التأثير على الرأي العام لأثارة حملة عنيفة ضد مقترح الفدرالية والتباري في تصويره كإستراتيجية استعمارية تهدف لتقطيع أوصال السودان وزرع فتنة وطنية بعد مغادرته!! إن الخطأ الأول الكبير الذي ارتكبته الحكومة الوطنية الأولى بالبلاد والقوى السياسية والأحزاب المشاركة في البرلمان الأول جعل الاحتقان ينمو ويتطور في جسم الوطن لأكثر من نصف قرن من الزمان، عانت آلامه وأحزانه كافة الأجيال المتلاحقة ودفع ثمنه كافة أفراد الشعب السوداني.. أرواح أزهقت ودماء سالت وثروات بددت وموارد ضيّعت وثقة بين أبناء الوطن فقدت.. ثم نعود بعد نصف قرن من الزمان من خلال اتّفاقية نيفاشا 2005م، لنعترف بحق أهل الجنوب بالحكم الفدرالي، بل نذهب أكثر من ذلك بإعطائهم الحق في تقرير المصير بنهاية الفترة الانتقالية والتضحية بوحدة السودان إن شاءوا بشروط ميسرة وفي ظل استقطاب حاد وعدم ثقة عارم وغبن متقادم ونظام استعماري جديد متربص، كم يسُره أن تتجزأ أوطان الأعداء حتى يسهل عليه التهامها وابتلاعها (فرق تسُد). إن الهروب عن مجابهة المشاكل ومواجهة الأقدار بشجاعة ليس من الحكمة في شيء وليس بمنجٍ من المآلات المحتومة كانت تلك المشكلات شخصية أو عامة وفي الأمر العام تصبح المسؤولية أشد والنتائج متعدية وكارثية ورحم الله من قال: عاجز الرأي مضياع لفرصته حتى إذا فات أمر عاتب القدرا إن الفدرالية عملياً ونظرياً ليست أداة لتمزيق الشعوب بل هي وسيلة لحفظ وحدتها في جو من احترام التنوع الثقافي والإثني والاجتماعي والجغرافي وخلافه، وتعتبر الفيدرالية أنسب الصيغ لحكم الدول ذات المساحات الكبيرة والأجزاء المترامية والطبيعة المتباينة، وتقوم عليها في العالم كثير من نظم الحكم في دول شهيرة مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وكندا وألمانيا والهند وغيرها. ولما كان السودان في تصنيف الخبراء وبالواقع المعاش يعتبر من أكبر مستودعات التنوع الإثني والثقافي والديني في أفريقيا فإنما انتهينا إليه من نظام فدرالي ليس لجنوب السودان فحسب ولكن لكافة الأقاليم والولايات هو الصيغة الأنسب والأقدر على استيعاب التنوع وتلاقح البيئات الاجتماعية والطبيعية والأحسن في توظيف الطاقات المختلفة لقوة الوطن وليس ضعفه ووحدته وليس تفتيته. دعونا إذن في ظل هذا الاعتراف الموضوعي، أن ندعو إخواننا في جنوب السودان لإعلاء صوت العقل على العاطفة وتجاوز مرارات الماضي لأجل مستقبل حلو، وأن نلعق جراح الماضي لصون جسد وطن معافى، وأن نغفر لبعضنا البعض أخطاء الماضي على فداحتها، وأن نتجاوز أحزان الماضي برغم طول مكثها وخطورة آثارها، ولنعمل سوياً لأجل وطن واحد (حدادي مدادي) يسعنا وأكثر فما يجمعنا أكثر مما يفرقنا وقد اعترفنا مؤخراً - هو خير من ألا نعترف - اعترفنا بالتمايز والتنوع وقامت مؤسسات اتحادية وإقليمية في نظام حكم يؤطر لذلك. الجنوب اليوم أكثر حاجة للاستفادة من إمكانات ومخرجات وتطور الوطن الأم وليس في مقدوره منطقياً أن يستقيم كدولة مستقلة في الواقع المنظور، فلا تعمينا الأحقاد والأغراض والأضغان التي يتصرف على إثرها البعض، ومن الحكمة ما قيل: (من الجهل أن يكسر الأعرج عكازه على رأس عدوه). (ونواصل)..