ثلاثة شهور أو تزيد قليلاً هي الفترة الفاصلة بيننا وبين صناديق الاقتراع. الراغبون في كراسي الحكم يتزاحمون بالمناكب على مداخل الترشيح، بعضهم «للرئاسة» وبعض آخر للولاية وثالث للبرلمان القومي ورابع للمجالس الولائية. يفعلون ذلك ويتجادلون في الوقت ذاته حول كيف ستكون هذه الانتخابات- حرة نزيهة أم مُزورة و«مضروبة»- بعضهم يريدها ولو جاءت مُكللة بكل عيب، وبعضهم يرى مقاطعتها أو تأجيلها إن لم تكن مبرأة ونظيفة. وسط كل هذا الزحام والتدافع والتنابز، استوقفتني أحاديث رجال ثلاثة، باعتبارها مؤشرات مهمة تحمل توقعات وقراءات خطيرة تتصل بحالة «السيولة» السياسية والأمنية التي يعيشها الوطن، مُنتظراً قدَرَهُ، الذي لا يملك من مقومات صده أو تفاديه أو فعل أي شيء، حالُه حال ذلك الرجل «الراجي الله في الكِريبة» كما يقول المثل السوداني، الذي يعيده البعض لعام وباء عظيم أظنه أفنى معظم القوم، وسُئل ذلك الرجل الذي ظل جالساً منتظراً بلا حراك عماذا ينتظر، فقال قولته التي صارت مثلاً: «راجي الله في الكِريبة». الرجال الثلاثة، الذين أدلوا بهذه الأحاديث، يمكن أن يتحرى فيهم المرء الإلمام بوقائع ومعلومات تعطي توقعاتهم درجة كبيرة من المصداقية، وهم صلاح عبد الله قوش، المستشار الرئاسي لشؤون الأمن القومي، ود. خليل إبراهيم قائد حركة العدل والمساواة، وعبد الواحد محمد نور قائد ومؤسس حركة تحرير السودان المنقسمة على نفسها. ففي «مؤتمر العنف الحضري والعنف المصاحب للانتخابات» الذي تنظمهُ مؤسسة اتجاهات المستقبل، توقع الفريق صلاح عبد الله «قوش» مواجهة الانتخابات المقبلة بموجة «عنف منظم» للإطاحة بالعملية الانتخابية كلياً، وشدد- في ورقته أمام المؤتمر- على أن تلك الموجة تعد التهديد الأقوى للإجراءات، مقارنة بالعنف المتولد جراء الأحداث الشبيهة بما وقع في كينيا وزيمبابوي ودول أفريقية أخرى، وفي هذا فهو يتفق- حذو النعل بالنعل- مع ما ذهب إليه زعيم حزب الأمة إمام الأنصار الصادق المهدي في خطبته يوم الجمعة الماضي بمسجد الهجرة، الأمر الذي جرّ عليه غضب المتحدثين والكاتبين بلسان المؤتمر الوطني. لكن قوش وجه اتهامه للقوى «غير الراغبة في دخول الانتخابات»، وتساءل عن قدرة تلك القوى على القيام بذلك- أي بتفجير العنف المنظم- وأجاب بأن «بعضهم قادرون وآخرون عاجزون»، وبالإضافة إلى ذلك فقد حذر قوش من مناطق بعينها قد تشهد أحداثاً للعنف المنظم، حددها بالجنوب وأبيي ومعسكرات النازحين بدارفور التي قال إنها «عُبئت ضد الحكومة». لكن ما لم ينتبه له الفريق قوش هو أن «العنف المنظم» قد يكون من بين حساباته الانتشار إلى العاصمة والمدن الكبرى. أما د. خليل إبراهيم فقد ذهب في حوار أجرته معه صحيفة «أجراس الحرية» ونشرته أمس الأول «الثلاثاء» إلى ما هو أخطر من ذلك، فقد سأله محاوره- الأستاذ كمال الصادق- عن أن هناك من يقول إن اتفاق السلام في دارفور لن يحدث إلاّ بعد الاستفتاء على تقرير المصير في العام 2011، وعما إذا كان يتفق مع هذا الرأي، فأجابه خليل بالقول: بالمناسبة أنا هو من قال بهذا الكلام في العام 2004 بعد التوقيع على بروتوكول ميشاكوس؛ إن السلام لن يتحقق في دارفور إلاّ بعد الاستفتاء، لأن هناك إرادة دولية لا تريد السلام في دافور قبل هذا الموعد.. العمل الجاري الآن هو لإسكات السلاح ووضع قضية دارفور في (ثلاجة)، أي الدخول في حالة لا حرب ولا سلم، ثم ينتظر الناس بعدها نتيجة الاستفتاء.. لو مرت بسلام وانفصل الجنوب، بعدها يمكن أن ينظروا في مشكلة دارفور وبقية أقاليم السودان، وإذا لم يحدث ذلك فإن (دارفور وقتها يمكن أن تحارب مع الجنوب).. لذا توجد إرادة دولية بأن لا تحل مشكلة دارفور الآن وهذه الإرادة الدولية تتوافق مع مُراد المؤتمر الوطني.. لذا أقول لأبناء دارفور وسائر الأقاليم المهمشة، اتركوا الاتكالية وافرضوا السلام بوحدتكم وتضامنكم القوي في وجه النظام.. أقول هذا ليس رغبة في استمرار الحرب ولكن قناعة مني بأن هذه الحكومة ليست على استعداد لتقديم أية تنازلات إلاّ وأنفها راغم. أما مجمل حديث خليل للصحيفة فقد انصب على أحقية حركته، التي أصبح يسميها «حركة العدل والمساواة الجديدة»، في الانفراد بتمثيل دارفور في أية مفاوضات سلام، بما في ذلك مفاوضات الدوحة التي حدد الوسطاء «24 فبراير» المقبل لاستئنافها، لكن خليل يرى أن الحديث حول «تحديد زمان للتفاوض سابق لأوانه.. ويجب على الوساطة المشتركة (تحديد أطراف التفاوض) قبل الحديث عن موعده». وبينما حمَّل خليل على المبعوث الأمريكي سكوت غرايشن واتهمه بتعقيد مشكلة دارفور بتركه لحركة العدل المساواة الرئيسية- على حد وصفه- والبحث عن حركات جديدة، التي هي عبارة عن «أفراد بمسميات حركات»، انتقد خليل اتجاه غرايشن لخلق قيادة بديلة تتجاوز حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور وحركة العدل والمساواة، ناصحاً غرايشن بالنأي عن المشاكل الداخلية للحركات، لكن عبد الواحد من جانبه تمسك بعدم المشاركة في منبر الدوحة، ورأى في حوار- مع «أجراس الحرية» أيضاً- أن الأجواء الحالية غير ملائمة، واشترط- كالعادة- وقف الإبادة الجماعية والقتل والاغتصاب ونزع سلاح الجنجويد، وطرد المستوطنين الجدد لانضمامه إلى المفاوضات مع الحكومة حتى في الخرطوم نفسها. ونفى نور أن يكون قد استخدم النازحين «كرهائن»، وقال إن المطالب التي يطرحها هي ذات مطالبهم، وقطع بأنه لن يدخُل المفاوضات ما دام في المعسكرات نازح واحد، ولم يستبعد تحالفاً مع كل القوى المؤمنة بالسلام العادل لدارفور بما فيها حركة العدل والمساواة، وكشف عن نيته زيارة جوبا في وقت قريب، واصفاً علاقة حركته مع الحركة الشعبية بالخاصة والمميزة. أحاديث الرجال الثلاثة- قوش وخليل وعبد الواحد- تصب كلها في اتجاه واحد، وتحمل في مجرى نهرها نفس التحذيرات والمخاوف والتحسبات والاتهامات المتبادلة، تحذيرات ومخاوف من العنف المنظم، وتأكيدات بأن سلام دارفور لا يزال بعيد المنال، وأن معسكرات النازحين لا تزال تحت قبضة الحركات المسلحة، وأن عملية «سلام الدوحة» لم تحُز على رضاء لا خليل ولا عبد الواحد، وإن خليل يعتقد جازماً أن القوى الدولية تتجه إرادتها لتأجيل سلام دارفور إلى ما بعد الاستفتاء على تقرير المصير، حتى يحارب الدارفوريون مع الجنوب إذا ما قاد الانفصال إلى الحرب.. كل هذا يجعلنا نقول إننا ووطننا «راجين الله في الكِريبة».. والله فعالٌ لما يريد.