أن تكون في طائرة فذلك يعني أن عمرك في مواجهة مباشرة مع قابض الأرواح، ذلك أن النجاة ضامرة الاحتمال إذا ما هوت الطائرة وارتجت وعلق بها الدخان الكثيف واشتعلت ناراً! أنا لا أخفي أنني أخاف الطائرات وحين أكون داخلها تكون أية الكرسي حاضرة حتى انتهاء الرحلة وفك الحزام، وبي جزع من المطبات الهوائية لا سيما تلك التي في الأطلسي فكأنما يقوم بإنتاجها من لجج موجه العاتي ويرسلها إلى أعلى في اتجاه الطائرة طمعاً في أجساد ركابها كي يصبحوا طعاماً كامل الدسم لأسماكه التي لا نراها إلا في (عالم البحار)! ذات رحلة كنت أتجه من فرانكفورت لتورنتو وقبل أن أبلغ من آية الكرسي (لا تأخذه سنة ولا نوم)، أخذتنا المطبات دون سابق إنذار هبت هكذا بغتة فتحولت كل الطائرة إلى جزع. الخواجيات المسنات يضربن الدفوف مثلهن ومثل ثاكلات الفجيعة اللائي يحسنّ (الردحي) في بيوت المآتم، وكان جاري (الثقيل) معنى وتعريفاً يقطّب وجهه كأن شيئاً لم يكن، حاولت الحديث إليه عن هذه الدراما الفضائية حدّق في وجهي ولم ينبس ! ومثل هؤلاء الثقلاء أصادفهم في كل رحلة أقوم بها كأن قوة ما تبعث بهم لإحكام الهلع عليّ كي أتبخر من الطائرة، وهم ثقلاء من كل نوع ومن كل جنس أذكر منهم ثقيلاً هندياً تفوح منه رائحة أقرب إلى (المُشك)، والمشك لمن لا يعرفه عجين خامر تحبه الخراف لأنه يفيض على جسدها باللحم والسقيا، عرض عليّ ذلك الثقيل الهندي كل أنواع الإسقاط البشري السالب حتى كدت أغادر الطائرة في (أول محطة)! لكن الثقيل الذي حبتني به تلك القوة الميتافيزيقية الحريصة على إتعاسي طوال زمن الرحلة، قذفت به هذه المرة من الخرطوملدبي بثقيل ذي كيمياء فريدة، خواجة مستدير له فك مكتنز بلحم صقيل أفاده منه ازدراد الخنازير لا شك، فلحوم الضأن والأبقار لا تتكوم على هذا النحو الذي يبدو عليه فكه، وله أعين ذات قبح خاص لأنها صغيرة ولا تتناسب طردياً مع ضخامة جسمه، فهي أعين أشبه (بالعراوي) التي تمسك بالزرارة (يا دوب).. كان استهلال ثقالته العبقرية أن أمرني قبل أن يلقي التحية بتنحية جزء من بدلتي تمدد على مقعده وبعدها أخرج من جيبه مصل الأزمة وبدأ يدخله في فمه المكتنز باللحم الصقيل وبدأ يسعل ثم يفتح فمه فتبين أسنانه التي لم أرها في جمل!.. وكانت خياراتي منعدمة تماماً لأن مقاعد الطائرة مشغولة حتى كدت الإقلاع من (دورة المياه). وفي الطائرات لا تقتصر (الثقالة) على المسافرين، فأحياناً تتجلى في المضيفات.. أذكر مضيفة كانت تقوم على خدمتنا من الفاشر للخرطوم كانت من فرط عدوانيتها تستدرج المسافرين لخطوط التعارك حتى وجدت ضالتها في شيخ مسن واشتبكت معه في ملاسنة كلامية بصوت مرتفع المناسيب وشتمته شتائم بألفاظ كانت أحلاها (يا معفن)! روى لي محجوب فضل وهو إنسان عقيدة في الحكايات والروي، أن عمه سافر ذات مرة على متن طائرة شامية وكان كثير الطلبات وكانت المضيفة تقابل طلباته بعبارات تنعشه من طراز (تسلم لي ها العيون.. وحنا خدامنك)، ثم عاد بالطائرة السودانية وحين طلب المضيفة قالت له (عايز شنو؟).. فقال لها (عايزك تفتحي لي الشباك دا عشان أتلب.. إنتي تسلم لي ها العيون ما أدوكم ليها)؟! ما زال هذا الخواجة المستدير يسعل في أذني ويكشف لي أسنانه ويتنفس بصوت أعلى من محرك الطائرة، ولكن من حسن حظي أن المطبات الجوية كانت غائبة طوال كل الرحلة حتى بلغنا دبي فتنفست وأثنيت وحمدت الله وغبت عنه في صفوف الجوازات، لكنني في الصباح رأيته بكامل هيئته المفضية للكآبة بنفس العمارة التي أسكنها فقررت الرحيل فإني لم أحتمله جواً فكيف لي براً !!