ذات عودة لي عبر الخطوط الجوية الألمانية (لوفتهانزا) للسودان كان يجلس بجانبي (خواجة) اختارته إحدى شركات النفط العاملة في بلادنا ضمن قواها العاملة بحقل هجليج، وكان الخواجة متلهفاً لمعرفة السودان وتاريخه وأهله ولما كنت حفياً بمثل هذه المقابلات في الطائرات على الوجه الأخص كنت رؤوفاً به وباراً ومتبرعاً برسم أجواء أعرف مدى حب الخواجات لها كحفلات (الباربكيو) التي لا يمارسها الفرنجة إلا في الصيف. وكم سره حينما قلت له أن كل فصول السنة في السودان صالحة لإقامة مثل هذه الحفلات فالطقس حار واللحم متوفر والفحم على (قفا من يشيل) ولم انس بالطبع سوق الناقة وقندهار، وكيف يتاح للزبون بأن ينتخب اللحم الذي يريد شواءه بنفسه.. حاصرته بطيبات السودان ضاناً هشاً وعجولاً و(بيفاً) من البقر . ثم عرجت على النيل والنيل الأبيض والأزرق والروافد المتفرعة وتذكرت من رائعة الشريف (وفيك سوباط ملولو زي دبيباً خاف) وكانت كل تلك الأنهر والمياه مقدمة لإمكان الصيد المجاني الذي لا يكلف سوى (صنارة وصارقيلاً) انبسط ذلك الخواجة وبان ذلك على تقاطيع وجهه ولكن حين أعلنت المضيفة أننا على مشارف الخرطوم لم يبن للخواجة أي مما ذكرت فقال لي (Hi nothing is green here) لا شيء يبدو أخضراً هنا.. منذ تلك الرحلة ظللت أكتب عن التشجير والخضرة وضروراتها وكم كنت شجياً ومسروراً حين انتظمت هذه الصحوة وبدأت تعم معظم أرجاء الخرطوم فعلى طول الطريق الممتد من كوبري أم درمان القديم وحتى مشارف الجريف شرق فرضت الزهور نفسها وأصبحت الخضرة رقماً موجباً والقلوب اتأدت والعين (نضف شوفا). وكم سرني الشريط البستاني الذي يسور وزارة الدفاع ومكاتب رئاسة القوات المسلحة (القيادة العامة) فهو تشجير يدل على ذوق منضبط فكل الزهر (يرفع التمام). البارحة تعطلت عربتي بالقرب من هذا الحائط الجمالي فدلفت لأكون بالقرب منه ريثما يتم إصلاح العطل فإذا بي أمام جيش من المتبطلين يرقدون في فناء هذه الحدائق أحذية غليظة تدوس حشائش ناعمة وأكياس تمباك وقشر ترمس على هامات الزهور.. أحسست بحنق وغيظ وتذكرت تعليق الخواجة وتمنيت لو أن الولاية عينت شرطة لحراسة الحدائق ومنابت الجمال من التوحش الآدمي وبقايا التمباك.