إن بلاد الهند تشبه بلادنا السودان في وجوه كثيرة، ففي كلا البلدين تنوع فريد وتعدد عجيب، تنوع إثني وديني وثقافي ولغوي وإجتماعي، ففي الهند عدد من اللغات واللهجات يتجاوز المائة، ويعتنق الهنود عدداً من الديانات السماوية والأرضية، فهناك المسلمون والمسيحيون واليهود، وهناك أتباع البوذية والكونفوشية والزرادتشتية والهندوسية.. الخ.. وفي السودان عدد من اللغات واللهجات يقارب المائتين، وهناك المسلمون والنصارى واليهود، وهناك الوثنيون، وهناك اللادينيون.. الخ. وقد أفرز هذا التنوع والتعدد في المجتمع الهندي طبقية سحيقة، تصنف البشر إلى طبقات، تبدأ من الطبقة الراقية (النبلاء والاقطاعيين) إلى طبقة المنبوذين، أما الطبقية في السودان فليست ظاهرة أو متجذرة كما هو الشأن في الهند، فهي طبقية اقتصادية، فهنالك موسرون وهناك معدمون. ومن أوجه التشابه بين الهند والسودان أنهما استعمرتا من قبل الإمبراطورية البريطانية زماناً طويلاً، وقد عمل الاستعمار كما يزعم- على تحديث هذه المجتمعات المستعمرة، وذلك عن طريق إنشاء إدارات مدنية تقوم على أمر التعليم والصحة والاقتصاد وغيرها من شؤون الحياة، واقتضى هذا الصنيع تدريب بعض الكوادر الوطنية التي تعين في إدارة هذه المرافق. وكان هذا التدريب مقيداً بهذه الغاية، ولم يكن مبذولاً لكل الناس، إنما كان من نصيب أبناء زعماء العشائر والبيوتات التي كانت لها الرياسة في مجتمعات ما قبل الفترة الاستعمارية. ثم تحرر البلدان الهند والسودان من نير الاستعمار البريطاني، وبدأ في تاريخهما ما سمي بالحكم الوطني، فكيف سارت الأمور في كل بلد؟ لقد سار البلدان في طريقين مختلفين، فأقامت الهند نظامها السياسي على النموذج البريطاني الذي أسسه الإنجليز، هذا النموذج الذي يتخذ من الديمقراطية الليبرالية آلية للحكم، بكل ما ينتظم ذلك من انتخابات وحرية تعبير، وفصل بين السلطات.. إلى آخر هياكل النظام الديمقراطي، كما أن السودان سار على هذا النهج في فترة ما بعد الاستقلال وفي فترات لاحقة، تخللها حكم عسكري قابض . فهذا هو الفارق بين الهند وبيننا، فقد تواصل النظام الديمقراطي في الهند إلى يومنا هذا، وهزمت تجربتنا مجموعة من الانقلابات العسكرية، وهذا ما لم يُتح لتجربتنا النمو والنضج والاستمرار. ولم تكن الطرق معبدة أمام الهند لتنعم بالاستقرار في نظامها السياسي، ومن ثم الازدهار الاقتصادي والرفاه الاجتماعي، فقد نشبت حرب ضروس بين مواطنيها من المسلمين والغالبية من الهندوس، هذه الحرب التي تمخضت عن نشأة دولة الباكستان، ومن ثم بنغلاديش. ومن بعد ذلك برزت إلى الوجود دولة الهند المعروفة بحدودها الجغرافية، هذه الهند التي نقارنها ببلادنا السودان.. لقد مرت الهند بفترات من الاضطرابات السياسية التي كانت من نتيجتها مجموعة من الاغتيالات، بما فيهم الزعيم الخالد غاندي، كما تعرضت الهند لموجات من المجاعات الطاحنة، وقد تبدو هذه التطورات طبيعية في سياق تحول مجتمع الهند من مجمع زراعي رعوي متخلف إلى مجتمع عصري متمدن، وقد ظل نظام الحكم الذي أسس على الديمقراطية الليبرالية يعمل في ظل هذه الظروف التي ذكرناها آنفاً في اضطرابات سياسية واغتيالات للقادة، وهو ما يؤكد أن معالجة أخطاء الديمقراطية وقصورها يكون بالتمسك بها وبتصحيح مسارها وتقويم اعوجاجها، وليس بوأدها والقضاء عليها، فهذا لا يمثل حلاً لمشكلاتها، فلم نسمع أن انقلاباً عسكرياً قد وقع في الهند، أو أن الجيش قد تمرد على الحكومة المنتخبة، أياً كانت هفواتها وعثراتها!!. إن النظام السياسي في الهند يلائم طبيعة المجتمع الهندي المتنوع اثنياً ودينياً ولغوياً وثقافياً واجتماعياً، فهو نظام ديمقراطي برلماني علماني، تنبني أسسه على التداول السلمي للسلطة، وهذا يعني الاحتكام للشعب، فالشعب هو صاحب السلطة، فقد صار رأس الدولة تبعاً لهذه الديمقراطية مسلماً، وصار مرة أخرى من طائفة السيخ، وهما ينتسبان إلى أقليات هندية، بل إن الهند إمعاناً في التمسك بالقواسم والجوامع بين طوائف المجتمع المتعددة أتخذت اللغة الإنجليزية (لغة المستعمر) لغة رسمية للدولة، وللمجتمع أن يستعمل ما يشاء من لغات ولهجات محلية، ويتصل بحث الهند عن الجوامع والقواسم بين أبنائها أن الدولة لم تتخذ أية ديانة- على كثرة ما فيها من أديان- شعاراً لها، وفي مقابل ذلك كفلت حرية العقيدة لكل مواطنيها. وكان ثمرة هذا النظام ما نشاهده في استقرار الهند سياسياً وازدهارها اقتصادياً، فقد غدت تزاحم القوى الكبرى، بل إن القوى الكبرى تسعى للاتجار معها، والإفادة من قوتها وتنوع مواردها. وعلى الرغم من أن الهند من أقدم أمم الأرض وأعرقها وأخلدها في الحضارة الإنسانية لم تكتف بالنظر إلى الماضي والعيش في ظله، بل والنوم في إشراقه وخلوده، بل أخذت تركض وراء المستقبل ركضاً، وتثب بخطوات واسعة واثقة، وكان لها من ذلك ما خططت له وعملت من أجله، فهي الآن قوة نووية، يعمل لها الأعداء ألف حساب ويخطب الأصدقاء ودها. أما نحن في السودان فالعجب لا ينقضي من مسلكنا، فلم نستطع أن نفعل ما فعلته الهند، برغم التشابه الكبير بين البلدين، فلم تستطع النخبة من جيل الاستقلال تطوير نظام للحكم يلائم طبيعة مجتمعنا، ويستجيب لتطلعاته؟ وقد يلتمس بعض الناس لهم العذر، ويتعلل بأن المجتمع الذي ورثته هذه النخبة عن الانجليز تشيع فيه الأمية والقبلية والجهل.. لكن ما قالوه ليس مقبولاً، فقد كان المأمول والمرجو أن توضع الخطط والبرامج التي تكفل القضاء على هذه الآفاتن التي أقعدت مجتمعنا ولازالت تقعده، بل أن هذه النخب، تدري أولا تدري، وظفت هذا الثالوث- الأمية والجهل والقبلية- في خدمة أهدافها، فبدلاً من أن ينشغل ساستنا بمحاربة هذه الآفات أنشغلوا بلعبة كراسي الحكم، التي مازالوا منشغلين بها دون سواها، وعلى الرغم من أن الإنجليز أسسوا نظاماً ديمقراطياً للحكم في بلادنا كما فعلوا في الهند، لكننا لم نستطع تطوير هذا النظام ليساير تطور مجتمعنا، بل لم نستطع المحافظة على تلك اللبنات التي وضعها الإنجليز، فقد منيت بلادنا بتدخل الجيش في الحياة السياسية لثلاث مرات في خلال خسمين عاماً هي عمر الاستقلال.، ولهذا الفشل في تأسيس نظام سياسي تتوفر له عوامل الديمومة والنجاح، أسباب جوهرية وأخرى ثانوية، فمن الأسباب الجوهرية انشغال الدولة بما سُمي بمشكلة جنوب السودان، هذه المشكلة التي كانت نتاجاً صرفاً لفشلنا في إدارة التنوع الذي تمتاز به بلادنا، فبدلاً من أن يكون هذا التنوع كما في بلاد كثيرة- عامل قوة ومنعة أصبح عامل فرقة وشتات وحروبات، فقد ظن الساسة أن حدود ولاية الخرطوم هي حدود السودان، فكان تعاملهم مع أطراف السودان تعاملاً موسمياً، فلا هم تركوا الأطراف لقياداتها التقليدية ولا هم عملوا على دمجها في كيان الأمة والدولة، فبجانب مشكلة الجنوب انفجرت أطراف أخرى في غرب السودان وشرقه. وكان لهذا الاضطراب في نظام الحكم وتقلبه بين العسكرية الشمولية والديمقراطية الطائفية ثمراته المرة في تدهور الوضع الاقتصادي ونزوح أهل الأرياف إلى المدن، ومن ثم تخلف النظام التعليمي وتردي الوضع الصحي، فنحن الذين أنشأنا كلية غردون في 1912م أصبحنا نرحل ذرافات ووحدانا إلى الأردن للعلاج، الأردن التي أنشئت في 1921م. إن أدواء بلادنا نِشأت وتطاولت من اضطراب نظام الحكم، وتأرجحه بين الشمولية العسكرية والديمقراطية الطائفية، وقد كانت المشاكل الأخرى كلها ثمرة طبيعية لفشلنا السياسي. وما لم يستقر نظامنا السياسي لن تستقر بنا الحياة، وسنظل في ساقة الأمم.. إن العلاج الناجع الذي لا علاج قبله ولا بعده هو الاستفادة من تجربة الهند في نظام الحكم، فهي أشبه بنا من كل أمم الأرض، وهذا الدواء هو الديمقراطية الليبرالية البرلمانية أولاً وثانياً وثالثاً، فهذا هو النظام الذي ينسجم مع طبيعة مجتمعنا المتنوع المتعدد، وهذا النظام هو أصلح نظام لنا حتى مع افتراض أن الجنوب اختار الانفصال وصار دولة مستقلة، فإذا استقر نظامنا السياسي وكان الحكم فيه للشعب، نبدأ النظر بروح الجماعة في شؤون الحياة الأخرى من تعليم، وصحة، وزراعة، واقتصاد، وأمن، وعلاقات خارجية .. الخ. üبروفيسور /جامعة أم درمان الإسلامية