هاهي راية التوقيت تأذن للسباق (بقيدومة) الانطلاق.. وبدأ الكل يدشن حملته ويحشد الناس في زفته وفق امكاناته المتاحة، وتبعاً للمعطيات المباحة أو حتي الآليات المستباحة.هي تجربة يدلف اليها الجميع حاكماً ومعارضاً للاحتكام الى الشعب، بعد أن غابت عنه صناديق الاستحقاق أو غيبت على مدى عقدين من الزمان، جرت تحت جسور مراحلهما مياه كثيرة، وفي اتجاهات مختلفة سواء على مستوى التيار الحاكم الذي جاء الى سدة الحكم متوحداً بعضلات السلاح والمال، وربما الفكرة ويدخل الى معركة الانتخابات، مقسماً بعد أن طغت المصالح وتفاقمت المطامح ففرقت الأحبة أيدي سبأ.. وهاهي المعارضة تستعد في تراخٍ وكسل بين السخط والشك والريبة، وحالها يغني عن سؤالها وهي تعاني التشظي والانسلاخات التي جعلت من حزبيها الكبيرين، أحزاباً عددا على سبيل المثال، فيما يلملم اليسار أوراق ذكرياته القديمة مع الشارع، في محاولة لإحياء التعارف الوثيق القديم، ولو من قبيل إثبات الحضور في التنافس على قلب ذلك الشارع الذي ماتت الكثير من خلاياه القديمة، وتبدلت في شرايينه دماء جديدة لن يجد من حمرة اللون فيها إلا ما يسلك مسارب ضيقة في اتجاه ذلك القلب..هو حال الزمان شئنا أم أبينا.. دأبه التبدل وتقلب المراحل والشخوص..فالأمر سيان ويتساوى عنده الجميع إذا ما أفرط القوى في اعتداده بقوته إذ إن السياسة (حرباء) متعددة الألوان، وفق طبيعة الموقع الذي تقف عنده.. وإرادة الشعوب بالطبع لا تعرف الغدر ولكنها تحسن التقدير هي الأخرى في الوقت المناسب.. أما الذي لا يحسن لعبة تحويل الضعف والوهن الى قوة تملأ جناحه بالرياح حيال سباق لابد من صنعاء في نهاية مطافه، وإن طال المسير.. فهو أيضاً خاسر لا محالة..من الواضح جداً أن الشغف للممارسة الديمقراطية قد بث الحماسة في نفوس الكثيرين من الطامحين الى مقعد الرئاسة الوثير والساخن، والى جلسة الوالي الحلوة في سطوتها والصاخبة في كلفتها أو الى كرسي النيابة الذي يتيح لمحرزيه الإقامة في العواصم، بعد أن يحصدوا أوراق المطالب التي يكلفهم بها من انتخبوهم.. وكل تلك الأحلام هي مشروعة لمن يأنس في نفسه الكفاءة للتكليف قبل التشريف.. إلا إنه من الواضح أن التهافت على الترشح لا يبدو مبنياً في كلياته على مبدأ الكفاءة، بقدرما تلعب فيه دوافع تصفية الحسابات سواء على مستوى الكيان الواحد المتشظي أو المختلف ضمن الشراكة والتحالف، أو على مستوى التيارات في عموم الساحة السياسية، والتي يوغر صدور بعضها على بعضها الشعور بوجوب الثأر إن لم يكن بالمقدرة على إحداث ذلك عبر الصناديق.. فليكن في مرحلة ما قبلها وعبر تكسير المجاديف أو تأخير الإبحار نحو النصر بتشتيت الأصوات وعرقلة تخطي ضفة النهاية فيه، بإعادة الكرة وبقية المشاهد في سيناريو النتيجة معروف إذا أماط اللثام عن تفاصيله الداعون له تصريحاً لا تلميحاً.. ولسنا هنا في موضع من ينكر على اي كان ترتيب خططه في مباراة حاسمة، يعتمد على شفافيتها وجدية السعي الى انجاحها من قبل كل الأطراف مستقبل الوطن، الذي عانى أهله كثيراً من إفراط السياسيين في غيهم وتفريطهم الجم، على مدى سنوات استقلالنا التي تناهز الستين قطعت خلالها الشعوب التي استقلت بعدنا شوطاً بعيداً في التعاطي الصحيح مع الديمقراطية وبلغت شأواً عظيماً في تنميتها وبناء إنسانها ووحدة أراضيها.. ولنا على نطاق العالم الإسلامي أمثلة حية في ماليزيا واندونيسيا.. وعلى مستوى عالمنا العربي نجد أن دولة الأمارات العربية المتحدة قد وحدت أطراف خيمها المتناثرة، وبنت دولة اتحادية لامست هامات أبراجها حواف السحاب وبلغ مواطنوها درجة من الرفاهية قد يقول من يحسد تلك الدولة إن ذلك كان بفضل المال.. ولكنا نقول له ببساطة إن المال كالسيف، إن لم يجد ساعداً قوياً ليضرب به، فلن يقطع مهما كانت حدة طرفيه.. وعلى الصعيد الأفريقي هاهي جمهورية جنوب افريقيا تقفز فوق حواجز المستحيل وعمرها لم يبلغ العشرين بعد، وقد استثمرت ما ورثته من دولة الفصل العنصري لبناء اقتصاد يفوق في قوته بعض ما وصلت اليه دول الغرب الصناعية.. بينما تبددت البنى التحتية التي تركها لنا الاستعمار وأضحت أثراً بعد عين. الحقيقة أننا لانريد أن نجرد كل سنوات استقلالنا من اية انجازات، وعبر كل لونيات الحكم التي تعاقبت على إدارة البلاد في شكلها الديمقراطي قصير الأنفاس أو في صيغته الشمولية طويلة التيلة، فالكل أصاب فيما أصاب وأخطأ فيما أخطأ.. لكننا وإن كنا نأمل في المزيد من النجاحات بالأمس، فإن ذلك يدفعنا بالطبع لعقد الأمل العريض في التعويل على المستقبل.. حيث ينتظرنا الكثير لنلحق بقطار النماء لنجمع على متنه شتاتنا الذي أفرزه تهميش البعض وتغول بعضنا على ذاتنا.. من محطات الإحن والفرقة.. والكل يعلم علم اليقين أن قوتنا هي في تنوعنا وتباين مناخاتنا التي تفرز أنماطاً مختلفة من امكاناتنا الدفينة والظاهرة، والتي ينظر اليها العالم الذي يمكننا أن نخرج اليه بروح التصالح وتبادل المصالح وليس بعين السخط التي ترى المساويء وتولد روح المصادمة والعناد الذي يجلب العداءات والضرر. إذن نحن أمام استحقاق يشكل في مآلاته القريبة مفترقات طرق، إما ساقتنا الى الوجهة الصحيحة لغرس أشجار تثمر خيراً وإن طال الزمان وتستوي على سوقها شامخة، ويستقيم ظلها، وينداح في مساحات الحقل المتوحد والمخضر، وإما الى فشل سيعيدنا الى ما قبل المربع الأول، وهو مصير لا أحد يملك المقدرة على رسم صورته، لأن الكل من أبناء شعبنا لا يطيق حتى التفكير في ذلك..إننا نريده تنافساً مبنياً على البرامج والرؤى لمصلحة الوطن والمواطن ومستقبلهما.. فليتفق العقلاء منا وليتحالفوا.. وليكن التنافس للمؤهلين منا.. ليس بشهوة المال أو قوة السلاح، ولا بقدسية الموروث، وتحجر الولاء، ولا بوردية الأحلام الرومانسية، التي تخطى لونيتها الزمان.. وإنما بالنظرة الواقعية لاستشراف ذلك المستقبل انطلاقاً من بؤس الماضي وضيق الحاضر، الذي قسم الناس الى طبقتين.. إحداهما..(عايشة) والأخرى (دايشة) في وطن يستجدي صارخاً ابناءه أن يكونوا رحيمين به.. مثلما كان أباً حليماً بهم غطاهم بسمائه.. وأما رؤوماً أرضتعهم من أثدائها وهدهدتهم على أرضها...والله من وراء القصد.