عندما طالعت مقال الأستاذ طلحة جبريل الأسبوعي في «الأحداث» أمس؛ طاف بخلدي بل ترددت أصداء صوت عثمان حسين على مسامعي من حيث لا مكان ولا زمان وهو يشدو برائعته «حارمني ليه.. حارمني ليه»، ودهمني حزنٌ كاسر لتباريح طلحة ومواجده من أنه قد لا يتمكن إلى أن يفارق هذه الدنيا من ممارسة حقه الانتخابي. تلك المواجد التي «فضفض» عنها في مقاله الذي يحمل عنوان: «سوداني.. لم يشاهد قط صندوق الاقتراع طيلة حياته». طلحة زميل وصديق، ربطتنا حبال المهنة والمودة في السنوات الأولى للألفية الجديدة، عندما توليت إدارة صحيفة «أخبار العرب» الإماراتية وغادر هو صحيفة «الشرق الأوسط» التي كان يراسلها من الرباط في المغرب، فأصبح مراسلاً ومديراً لمكتب «أخبار العرب» من هناك، فكنا على اتصال يومي على الهاتف بين أبو ظبي والرباط، حتى أتانا زائراً إلى مقر الصحيفة فأسعدنا بوجوده بيننا وأنسه اللطيف وطرائفه المبهرة، قبل أن يعود أدراجه إلى الرباط والمغرب الذي صار وطناً ثانياً له منذ أن غادر السودان طالباً للعلم، فتخرج وعمل وتزوج وأنجب واستقر هناك، وأذكر أنه أهداني خلال تلك الزيارة كتابه عن الطيب صالح -رحمه الله- وكانت صلته قد توثقت بالطيب الذي كان يتردد سنوياً على المغرب لحضور «مهرجان أصيلة»؛ بدعوة من صديقه وزير الخارجية الأسبق محمد بن عيسى، وقد عاد طلحة مرة أخرى إلى «الشرق الأوسط» وأخذ يراسلها من واشنطن خلال السنوات الأخيرة. روى طلحة أنه خلال برنامج إذاعي مع إحدى الإذاعات الأوروبية فاجأه المذيع في آخر اللقاء بسؤال لم يكن في الحسبان هو: لمن ستمنح صوتك في انتخابات الرئاسة طالما أنه يحق للسودانيين في الخارج التصويت في هذه الانتخابات؟ وقال إن جوابه على سؤال المذيع كان حرفياً كالتالي: «كنت أتمنى أن أقول لك من هو مرشحي المفضل كما يحدث في الديموقراطيات العريقة، حيث لا يخفي أحد نوايا تصويته، لكن أقول بكل أسف لن أجد يوم الانتخابات مركز تصويت وصندوق اقتراع أضع فيه اسم المرشح الذي أعتقد أنه الأجدر.. ولم أزد على ما قلت، ولا أعرف إذا كان المذيع قد فهم جوابي.. وأخذ طلحة من ثم يشرح معنى ذلك الجواب فقال: كنت أقيم في واشنطن حتى الصيف الماضي، وكان يفترض أن أسجل اسمي ضمن كشوفات الناخبين في السفارة السودانية هناك، لكن حتى غادرت لم يكن قد فتح باب التسجيل في السفارة وهو ما حدث لاحقاً. فجئت إلى المغرب العربي، وبما أن مكان إقامتي الدائم هو الرباط، فقد انتظرت فتح باب التسجيل في السفارة بالعاصمة المغربية، لكن ذلك لم يحدث. وعلمت لاحقاً أن السودانيين في المغرب لن تتاح لهم فرصة التصويت، لأن مفوضية الانتخابات لم تهتم بهم أصلاً، وربما ارتأت أنه لا يوجد ما يبرر مشاركتهم في الاقتراع، أي لن يكون هناك صندوق اقتراع في الرباط، وبالتالي علينا نحن القلة أن نقبل باختيار الناخبين الآخرين داخل وخارج الوطن. ويمضي طلحة من بعد في سرد مواجده مع الانتخابات والديموقراطية السودانية، ويوضح أنه عندما خرج من السودان لم تكن أصلاً هناك انتخابات ليشارك فيها، وبعد سقوط نميري لم يكن متاحاً له الاقتراع في الانتخابات التي جرت في عهد الديموقراطية الثالثة، إذ كان التصويت يقتصر على المقيمين بالداخل فقط، وبعد احتمال عودة «صناديق الاقتراع» عقب ليل بهيم دام 20 سنة، كما قال، وجد نفسه في منطقة لم تتذكرها «مفوضية الانتخابات» على الرغم من أنه «سوداني» وليس شيئاً عدا ذلك، فطلحة، كما الطيب صالح، ظل يحتفظ بجنسيته وجواز سفره السوداني بالرغم من مضي عشرات السنين على إقامته المتصلة بالخارج، لكن طلحة لم يكتفِ بالتحسر على أنه لن يكتب له شخصياً التصويت على الإطلاق، بل قرر أن يذهب مذهباً آخر ويتقدم بطعن أمام القضاء السوداني يطالب فيه بحقه في المشاركة في الانتخابات. ورأى أن هذه قد تبدو «خطوة رمزية»، لكنها بالنسبة له «مسألة مصيرية» كما قال، وتساءل: من قال إن العمر سيمتد حتى تعرف بلادنا انتخابات أخرى؟ والسؤال يعبر عن عمق الأزمة الوجدانية والوجودية التي يعيشها صديقنا الصحافي، وكثيرون مثله في المغرب وفي غيره ممن انتظروا طويلاً في محطات متفرقة في العالم لحظة التحول الديموقراطي ومرور قطار الانتخابات عليهم، ليلحقوا بإحدى عرباته ويدلوا بأصواتهم حول حكم ومصير وطنٍ شردهم في الآفاق وحملوه، برغم كل شيء، في جوانحهم وضموه بين ضلوعهم. من هنا نناشد القضاء السوداني النظر بعين العطف والعدل لحالة الزميل طلحة وإحقاق حقه في المشاركة، مثلما ندعو المفوضية -إذا سمحت ظروفها- لإعادة النظر في مسألة السودانيين الذين لم تتذكرهم أو أهملتهم لتقديرها أن عددهم لا يستحق أن ينصب له مركز اقتراع، وكان ذلك أمراً ميسوراً في كل عاصمة لديها سفارة سودانية فلم يكن ذلك يكلف أكثر من «حقيبة دبلوماسية» واحدة تبعث بها لكل سفارة من تلك السفارات تحتوي على أوراق التسجيل ومعيناته ومناهجه وضوابطه. فحرمان السودانيين الذين يعيشون بالخارج لا يبرره قلة العدد من وجهة نظر القانون، فذلك حق دستوري لا يجوز غمطه تحت أي ذريعة كانت. ومع ذلك نقول لأخينا طلحة: لا تبتئس وتفاءل بأن «الجايات أكثر من الرايحات»!