كانت أبرز عناوين الحملة الانتخابية النوعية لمرشح الحركة الشعبية الرئاسي ياسر سعيد عرمان؛ هي أن ترشيحه يمثل «الفرصة الأخيرة» لبقاء السودان موحداً وديمقراطياً مع ذاته ومكوناته ومع العالم من حوله، وذلك ما تم تلخيصه في عبارة مختصرة من كلمتين «الأمل والتغيير»، وكان ترشيح عرمان في حد ذاته قد شكل مفاجأة أربكت خصومه وخصوم الحركة السياسيين وشركاءها في المؤتمر الوطني، واعتبروا ترشيحه- فاز أم لم يفز- بمثابة طعنة نجلاء وجهتها الحركة ضد حملة مرشحه الرئاسي المشير عمر البشير، وسعى المؤتمر الوطني- بحسب ما رشحت الأنباء حينها- إلى إغراء الحركة والضغط عليها بوسائل متعددة ومتنوعة من أجل سحب عرمان، ولما استيأس من استجابتها لهذا الطلب العزيز، أصبح الجنوب- حيث يقبع أكثر من أربعة ملايين صوت- هدف الحملة الرئاسية للبشير الذي طاف حواضره وبنادره بلا استثناء، وإذا ما قارنا الجهد المبذول في تلك الحملة الانتخابية في الجنوب مع ذلك المبذول في الشمال؛ لوجدنا أن نصف ذلك الجهد قد خصص للجنوب لوحده. وبغض النظر عن أحاديث «الصفقات» و «الصفعات» و«الطبخات» التي تقوم كلها على التخمينات والتكهنات والتقديرات، فإن بين أيدينا حقائق موضوعية لا يمكن لأي تحليل رصين أن يتجاوزها. بين تلك الحقائق أن المراقبين جميعاً في ا لداخل والخارج، وأن القوى السياسية المشاركة في الانتخابات جميعها بلا استثناء، قد توافرت لديها قناعة راسخة بأن عرمان هو الأوفر حظاً بين المرشحين الآخرين المنافسين للبشير، وأن ترشيحه يمثل «رمانة القبان» في ميزان الانتخابات الرئاسية، وأن الانتخابات لن تحسم من الجولة الأولى بعد دخول عرمان، ولذلك تحسبت المفوضية القومية للانتخابات لهذا الاحتمال وقررت طباعة البطاقات الانتخابية الخاصة بالمناصب التنفيذية- الرئاسة والولاة- في الداخل، وقالت ذلك صراحة في دفاعها ضد المحتجين على طباعة تلك البطاقات بمطابع العملة السودانية، معتبرة أن المدة الزمنية المقررة بين انقضاء الجولة الأولى وبداية الجولة الثانية لا تمكنها من طباعة البطاقات في سلوفينيا التي رسا عليها العطاء. الحجج التي أوردها الأستاذ عرمان وآخرون مؤيدون لسحبه غير مقنعة لأكثر من سبب، وأول هذه الأسباب أن «المنقصات» و«الاتهامات» المتصلة بأعمال المفوضية وإمكانية التزوير ليست جديدة ولا طارئة، بل سبقت ترشيح عرمان وترشح الآخرين، فسيطرة المؤتمر الوطني على أجهزة الدولة المدنية والنظامية ليست جديدة ولا طارئة، وكذلك الحال بالنسبة لأجهزة الإعلام، والاحتجاجات حول التعداد السكاني وأداء المفوضية خصوصاً في ما يتصل بعمليات التسجيل؛ وعدم نشر السجل الانتخابي وترتيبات الحملة الانتخابية والمنشور الذي ينظمها وتوزيع فرص الدعاية الانتخابية بين الفرقاء المتنافسين، كلها ليست جديدة ولا طارئة، كما أن الأوضاع القائمة في دارفور لم تكن وليدة اليوم أو الساعة. ففي ظل هذا الواقع الماثل أقدمت الحركة على ترشيح عرمان مثلما أقدم المرشحون الآخرون للأحزاب والمستقلون على دخول السباق؛ وواصلوا مساعيهم لإصلاح الأوضاع والحصول على الحد الأدنى من مقومات الانتخابات الحرة والنزيهة. فانطلاقاً من هذا الواقع الموضوعي الذي جرى في ظله الإقدام على ترشيح عرمان والآخرين، وهو واقع لم يتبدل أو يتغير بشكل جوهري خلال الأيام الأولى من شهر أبريل، فإن المنطق يدعونا للبحث عن «أسباب أخرى»- قد تخص الحركة- لاتخاذ قرار بسحب مرشحها للرئاسة، مع الاحتفاظ بمرشحيها الآخرين على كل المستويات كما أعلن د. رياك مشار نائب رئيس الحركة؛ في تصريح تناقلته الفضائيات في وقت متأخر من الليلة قبل الماضية، وليس بالضرورة أن تكون تلك «الأسباب الأخرى» صفقة بينها وبين المؤتمر الوطني أو حتى «صفعة»، بل ربما على الأغلب أملتها توازنات وتوجهات وصراعات داخلية بين تياري الوحدة والانفصال، وهو صراع قديم ومعلوم ومرصود داخل الحركة. فالأرجح أن تيار الانفصال رأى في ترشيح عرمان استمرار التواصل والاشتباك مع الشمال والعمل من أجل ترجيح الوحدة، الذي مثَّل عنوان الحملة الانتخابية لعرمان، وكان بالنسبة له لابد من إغلاق هذا الباب، خصوصاً بعد أن وردت إشارات صريحة من جانب الولاياتالمتحدة بأنها تريد أن تكون الانتخابات مقدمة ل«طلاق مدني» بين الشمال والجنوب. قالها وتناقلتها وكالات الأنباء وأجهزة الإعلام المبعوث الرئاسي الجنرال سكوت غرايشن خلال زيارته قبل الأخيرة للسودان، ومثَّل ذلك دعماً وتشجيعاً للتيار الانفصالي في داخل الحركة، ولابد أن ذلك رجح موقفه في الصراع الداخلي حتى تمكن من فرض سحب عرمان. وخلاصة الأمر أن سحب عرمان، حتى لو عاد المرشحون الآخرون للسباق الرئاسي، سيقضي على خطة «تشتيت الأصوات» التي تبناها المعارضون وفي مقدمتهم د. الترابي والمؤتمر الشعبي، وعلى الأرجح فإن البشير سيحسم السباق ويحقق فوزاً كبيراً منذ الجولة الأولى، ولن يكون هناك معنى بعد الآن لتحسب المفوضية لجولة ثانية. أما ما هو أهم وأخطر فإن انسحابه قد أهدر «آخر الفرص» لبقاء السودان موحداً، كما كان يقول، وتكون الحركة الشعبية «لتحرير السودان» قد قنعت من غنيمة «السودان الجديد»- حلمها التاريخي- بالإياب والانكفاء جنوباً إلى ما شاء الله.