لا أعتمد في حكمي على الانتخابات الجارية على معلقي الأحزاب، بما فيهم المؤتمر الوطني، ولا آخذ برأي المراقبين الأجانب، مع أنه لمصلحة العملية الانتخابية، وإنما آخذ بتقارير المراسلين، وبعضهم أجنبي، وبتطوافي الشخصي على كثير من مراكز الاقتراع في العاصمة القومية.. والمجمع عليه من مشاهدي هذه الانتخابات الاقبال الشعبي الواسع على الاقتراع، من الساعات الأولى في اليوم الأول حتى اليوم الثالث.. وهو إقبال دحض أصوات المعارضة التي تنبأت بضعف الاقبال لمقاطعتها الانتخابات. ثانياً: الهدوء غير العادي الذي جرت فيه عملية الاقتراع، والالتزام بالقواعد القانونية والأمنية، وهذا يحسب لهذا الشعب المحب للديمقراطية، الذي يحسن ممارسة إجراءاتها، كما أنه يخرج إلى السطح سجاياه المسالمة الموادعة في مثل هذه الظروف، التي عرفت بأحداث الشغب واللغط من شعوب عديدة في العالم الثالث. أما الثورة التي تنسب لهذا الشعب وهو يؤدي الاستحقاق الديمقراطي بكفاءة عالية، فالفضل الأكبر فيها إنما يعزى لاقبال النساء والشباب على أداء هذا الاستحقاق بصورة منقطعة النظير.. أما الشباب فقد برهن على انتمائه الوطني المرتفع التعبير بهذا الاقبال الانتخابي، وقد خرج بذلك من دائرة اللامبالاة السياسية المشهودة في العالم بين الشباب، كصاحب مصلحة في المستقبل المنظور، وفي استدامة التغيير الذي بدأ ليستمر، فكأن هذا الاستحقاق الانتخابي يمثل ثورة شبابية سلمية وديمقراطية. أما الثورة النسائية فهي الأعظم بلا ريب، وقد أعطتها هذه الانتخابات ثلاث فرص: فرصة للكلية الانتخابية المخصصة لها، وفرصة للمنافسة في الدوائر الجغرافية، وفرصة في التمثيل النسبي، علاوة لحقها كمواطن في الانتخاب العام، وقد استجابت المرأة لهذه الفرص مجتمعة، ولوحظ حضورها الكثيف في الساحة الانتخابية.. وهو تطور ديمقراطي وتقدم إنساني ليس لهما شبيه في العالم بأسره، يسكت أصوات المنادين بحقوق المرأة في السودان وخارجه، حتى ذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن كان لهم وجود محسوس وملموس في صفوف الناخبين، بل أن ذوي الحاجات الخاصة الذين كان يطلق عليهم في الماضي (معوقين) صاروا من المراقبين!! هي فعلاً ثورة شعبية انتخابية تضاف للتاريخ الحديث. هي ثورة يمارسها هذا الشعب عن طريق الصناديق، بعد أن كان يمارسها في السابق بالتظاهر في الطريق!! وهي ثورة يكمل بها هذا الشعب حلقة ثوراته الأخيرة، سواء في رفض (الجنائية) سيئة السمعة، أو في المقاطعة لمواكب المعارضة، أو في الحملة الانتخابية التي كانت بحق ملاحم شعبية تسبق الانتخابات، كما ستؤكدها نتائجها لاحقاً بإذن الله تعالى. واستمرت المعارضة تثير الغبار على مفوضية الانتخابات من اليوم الأول للانتخابات، مثلما ظلت تمارس هذا العداء المستحكم قبل الانتخابات، فقد انشغلت المفوضية طويلاً بالرد على الطعن في حيادها، وقد أوفت هذا الرد حقه من الافهام والافحام.. أما الهنات التي وقعت فيها في الساعات الأولى من اليوم الأول للانتخابات، فنسبتها من الضآلة، بحيث تعتبر عادية بين سائر دون العالم الثالث، ثم هي وقعت في بداية اليوم الأول، حيث أمكن تداركها.. أما بقية اليوم وبداية اليوم الثاني.. وقد شهدنا الجدل الذي دار حول الانتخابات الاميريكية من حيث نتائجها بين الرئيس الامريكي السابق جورج بوش الابن وبين مرشح الرئاسة الديمقراطي آل غور، وهو جدل قد وقع حتى في عد الأصوات يدوياً أو آلياً وفي أكثر المراحل حساسية. وفي السودان شبه القاري لا يمكن أن تخلو انتخابات تعددية في طبيعتها ومنافستها من الهنات غير المقصودة، ثم هي هنات لا تحرم المفوضية من حيادها، ولا تؤثر قط على نتائجها النهائية، لا سيما أن المفوضية قد مددت أجل الاقتراع ليومين كافيين، لازالة أي ضرر لحق بالناخبين أو المرشحين في مراكز محدودة، مع إعادة الاقتراع في مركز أو مركزين لاحقاً، الاقبال العالي هو عنوان هذه الانتخابات، فلا تشوهوه بهذه الاتهامات المضخمة المفخمة للمفوضية، وانظروا إلى الجزء المملوء من الكوب، وهو أن الناخبين جميعهم لم يحرموا من ممارسة حقهم الانتخابي في الأيام الخمسة للاقتراع، ولتشكروا للمفوضية صنيعها الوطني الجليل، والعبرة بالخواتيم وليس بالساعات الأولى في مراكز محدودة للغاية. والله المستعان