ورد في قصص السيرة، أن أحد الصحابة قال بين يدي فتح مكة، وقد دخل الرسول(صلى الله عليه وسلم) والمؤمنون فاتحين منتصرين، قال الصحابة:(اليوم يوم الملحمة غُلبت قريش) فرد عليه الرسول القائد:(بل اليوم يوم المرحمة)، وقد دخل الرسول يومئذ مكة منكسراً متواضعاً لله، متطاطئاً رأسه حتى يكاد يلامس خطام البعير.. رغم النصر المهيب وإندحار دهاقنة الكفر واتباعهم الذين اجتمعوا اليه وجلين، فخاطبهم الرسول الحليم قائلاً:(يامعشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وأبن أخ كريم، فقال قولته المشهورة: إذهبوا فأنتم الطلقاء). أسلم معظم أهل مكة يومئذ ولحق بهم البقية، فكان فتحاً فاصلاً بين زمانين وعهدين، فقد أصبح حماة الباطل بعدئذ حماة للحق والخير. ما أشبه الليلة بالبارحة، وما أعظم استلهام الوقائع والسير في حياة الأمم والشعوب، لقد توخت الإنقاذ لجملة من المكائد، داخلية وخارجية، وتصدت لسلسلة من المخططات الهادفة لاسقاطها، واستئصال شأفتها يشيب لهولها الولدان، جعلتها تخوض جملة من الملاحم المتلاحقة التي كلفتها كثيراً من التضحيات الجسام ولكنها عجمت عودها وقوت ساعدها، وانضجت تجربتها، وأعدتها لما تستقبل من تحديات ومهام، وذلك سر عبورها لمرحلة الانتخابات العامة مؤخراً بنفس هادئ، أنتج فوزاً مؤزراً ومستحقاً، جعل أعدى أعدائها في الغرب وأوربا يعترفون لها بالغلبة والانتصار، ويشهدون على تأهلها وجدارتها بتفويض شعب السودان لها بمواصلة المسير، رغم ضجيج المفوضين، وعويل المغلوبين، الذين طالما أكثروا الاحتجاج وجأروا بالشكوى مراراً، من احتكار الإنقاذ للسلطة، وطالبوها بإتاحة آليات التحول الديمقراطي، التي أنكرها عندما لم تأتِ بهم وأطالوا البكاء على أطلالهم البالية. إن الراصد لتجربة الإنقاذ يلحظ عزمها التدرج المدروس- من أول عهدها- من القبضة العسكرية نحو إشراك القوى السياسية الوطنية في السلطة، وقد بدأ ذلك بالانصراف الطوعي للضباط الأوائل من صناع الإنقاذ، وإشراك القواعد من خلال اللجان الشعبية، مروراً بحكومة البرنامج الوطني، ثم حكومة الوحدة الوطنية بعد إتفاقية السلام الشامل والاتفاقيات الأخرى، قبل الانفتاح السياسي الراهن. إن استلهام الأدب النبوي ووقائع السياسة الشرعية جدير بالإنقاذ والمؤتمر الوطني، التي تستند على مرجعية الشريعة الإسلامية لأول عهدها، فلتجعل من مرحلة التمكين الدستوري والمشروعية الشعبية الراهنة مرحمة مشهودة وملموسة، في المظهر والمخبر، مع الاتباع والغرماء، مع من تحب ومن تكره، وحمل الأمة حملاً رفيقاً نحو غايات الوطن الكبرى. إن التفسح في المجالس من شيم الفضلاء والكرماء، واتساع الصدور والعفو عند المقدر من أخلاق النبوة، وإعلاء شأن الوطن على شأن الذات الضيقة من خصال القادة الكبار للأمم العظيمة. إن من أهم مطلوبات المرحلة القادمة على المؤتمر الوطني أن يجدد دماء الحكومة بالأقوياء الأمناء والأطهار من قادة المؤتمر الوطني، وشركاء البرامج والأهداف من أبناء السودان الأوفياء، وقطاعات من شباب الأمة النجباء الموهوبين، والانفتاح الرشيد على مكونات الشعب السوداني، وجعل الوفاء لهذا الشعب الصابر النبيل أهم الواجبات، فلئن حرصت الدولة على دعوة الشعب وتحريضه على انجاح الانتخابات بكل الوسائل بما فيها (مشروع طرق الأبواب) وقد فعل، فإن عودة الحكومة القادمة (لطرق الأبواب من جديد) يظل مكافئاً ضرورياً لرد التحية، والتعرف اللصيق على هموم ومشكلات هذا الشعب، والعمل على ردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، وتوفير الاحتياجات الأساسية للمواطن، وقياس الواقع بين المشروعات النظرية في الخدمات والواقع المعاش.. مثل شعارات مكافحة الفقر، والعلاج المجاني بالحوادث، والتأمين الصحي لكافة الناس، ومجانية التعليم الحكومي، وتوظيف الخريجين، ورد المظالم، وغيرها من الأولويات الملحة في حياة سواد الأمة. إن اقتراب الحكومة في المرحلة القادمة من منهج العدل الشرعي كأحد أهم الواجبات، لا يتم إلا بإعمال مبدأ المحاسبة الصارم لكل مقصر في واجبه، أو متهمٍ في ذمته، أو مفرط في سمعته، ومركز قيادته بالطريقة التي تحاصر منابع الظلم والفساد، وتوصد باب الأوقايل والشائعات في هذا المجال، ولابد من قيام مؤسسات فاعلة وناجزة تعين قيادة الدولة على الوفاء بهذا الواجب، الذي لن تُبرأ ذمته ويرشد حكمه إلا به. أما نصيحتي للمعارضة، فإن الفرصة مواتية لتقديم نموذج سياسي وطني للمعارضة المسؤولة، التي تلتقي مع الحكومة على أرضية الإلتزام الوطني، الذي يجعل من المعارضة عيناً ناقدة، معينة على تحقيق الأهداف الوطنية العليا، وليس معول هدم متربص، حينها تصبح الحكومة والمعارضة وجهين لعملة واحدة.