هل باغتت الانتخاباتُ الأحزابَ المعارضة لتشهد البلاد ما شهدت من دراما الشد والجذب والنشر والطي التي شابت مواقفها قبيل أسابيع معدودة من بداية مرحلة الانتخابات.. ألم يكن في الوقت الذي حددته نيفاشا بثلاثة أعوام وزادته عاماً رابعاً متسعاً كافياً لوضع خططها وحزم أمرها لتجنب الهرج والمرج والتردد والتقدم والتقهقر الذي لم تشهد له البلاد مثيلاً عبر تاريخها الوطني الطويل.. دعاهم شريك المؤتمر الوطني في الحكم لاجتماع يعقد بجوبا، لا حباً فيهم، ولكن ليبرهن لشريكه القوي أن لديه خيارات أخرى. دعاهم لاجتماع بجوبا فهبوا يلبون الدعوة زرافات ووحدانا ناسين أنه ذات شريك نضالهم الذي تركهم (Out in the Cold) وذهب منفرداً لمفاوضات نيفاشا.. ذهبوا لجوبا فاصطخبت أفكارهم وتباينت، وعادوا كل يتخذ ما يعن له وما يرى من مواقف وحتى هذه استعصت على الكثيرين، وكانت فترة شتاتهم تلك هي فترة التسجيل للانتخابات التي عكف فيها المؤتمر الوطني على تسجيل عضويته ومؤازريه.. وأعجب للذي يبدأ طوافه الانتخابي بعد فترة التسجيل وتخرج له المدن أفواجاً وتهتف تأييداً و95% منهم غير مسجلين، ما جدوى الحشود المؤيدة إن كانت تفقد الشرط الأساسي للتصويت. كتبت مقالاً قبل فترة من مراحل الانتخابات قلت فيه إن التحدى الذي يجب أن يفطن له قادة الأحزاب التقليدية هو جعل أحزابهم جاذبة لطوفان مهول من الناخبين الجدد الذين لا يعرفون عنها شيئاً، ولا يبصرون في أرض الواقع لها صروحاً إنمائية ولا إنجازاً يقف اليوم ماثلاً للعيان.. والمتأمل للحملة الانتخابية التي انقضت يرى أن المؤتمر الوطني كان في حملته يعدد إنجازاته الإيجابية الكبرى في مجال التنمية والسلام وبسط الخدمات ويعد في برنامجه القادم بالمزيد منها، في حين كان المنافسون يركزون على سلبيات الإنقاذ وقد خلت حملاتهم من إنجازات تنموية قديمة تجعل الناخب يقف معهم، وقد حفلت ما صمموا من برامج مستقبلية بالوعود والوعود وحدها لا تضمن أصوات الناخبين. ولعل أكبر وعد تعول عليه الأحزاب التقليدية هو الفك الكامل لوثاق الحريات وهو وعد بلا شك عظيم وهو الفارق الباذخ بين الشمولي والديمقراطي، غير أنه بلا تنمية لا يطعم ولا يغني من جوع ولا يدفع ببلاد جل سكانها يعيشون بأقل من دولارين في اليوم حسب الإحصائيات الدولية لمصاف الرفاه والتقدم. السؤال الذي يلح: هل استعصى على قادة الأحزاب التقليدية ببلادنا إدراك أن الزمان دار دورته، وأن عشرين عاماً من حكم الإنقاذ أكسبتها وقتاً كافياً لإنجازات كبرى في شتى المجالات لا ينكرها إلا الذي ينظر بعين السخط التي تبدي المساويا.. وقد تمثلت هذه الإنجازات في إرساء السلام بجنوب البلاد وفي النهضة التنموية الكبرى والطفرة التي عمت البلاد.. نعم تمّ كل ذلك بانقضاض على الديمقراطية وبخروقات في فترة الحكم الأولى وبشمولية قابضة.. فحكم الإنقاذ حكم بشر وما من حكم في عالمنا النامي يخلو من مثالب وتجاوزات غير أن كفة الإنجازات ترجح بكفة السلبيات للذي ينظر للأمر بموضوعية. بدأ حزب المؤتمر الإعداد للانتخابات منذ توقيع اتفاقية السلام وعكف يرتب بدقة علمية قوائم عضويته في الحضر والريف وتم تكوين آلاف مؤلفة من الأمانات الفرعية، وتم رصد كافة البيانات المتعلقة بالأعضاء الملتزمين وتم أيضاً رصد الموالين والمؤيدين خارج العضوية وشمل الرصد والتسجيل كافة شرائح المجتمع وشرائح المهن المختلفة، وتم التركيز على الشباب بصورة خاصة لكونه الشريحة العمرية الغالبة في العقد السكاني.. عقد الحزب آلاف الاجتماعات وآلاف المحاضرات وآلاف المنتديات وتم تنفيذ المؤتمرات القطاعية على المستويات المحلية والولائية والقومية حسب التوقيت المعد، بالإضافة لمؤتمرات الحزب التي ظلت تنعقد سنوياً وتدفع بالمشاركين من مؤتمرات الأحياء والمحليات والولايات صعوداً للمؤتمر القومي، ولما جاءت الانتخابات كان حزب المؤتمر الوطني الحزب الأكثر تنظيماً واستعداداً، لذا فإن اكتساح هذا الحزب للانتخابات لم يفاجئ إلا الذين لا يعلمون بواطنه التي تفوقت على الحزب الشيوعي السوداني في أزهى أيامه. لقد فاز المؤتمر الوطني فوزاً مستحقاً للذي يؤمن بأن من كد وجد، وأربعة أعوام لقيام انتخابات قادمة كافية للأحزاب التقليدية لتجديد شبابها ومواكبة المتطلبات الحديثة لأحزاب عصرية.. وكافية لقيام أحزاب شبابية جديدة، فأكثر ما يسر أهل بلادنا برلمان يتألف من كل ألوان الطيف لتصبح المعارضة معارضة فاعلة. إن التحدي الأكبر الذي يجابه الرئيس المنتخب عمر البشير وحزبه هو موضوع السعي ليفوز خيار الوحدة في الاستفتاء القادم بالجنوب، وهو أمر وطني ملح يستوجب من كل وطني صادق التسامي فوق مرارات الانتخابات ليجابهه أهل البلاد موحدين ومتحدين. إن دعوة البشير لحكومة واسعة المشاركة دعوة نبيلة يجب النظر إليها بعين القلب وعين العقل وعين الوطن وليس بالنظرة الضيقة التي ترتاب في الأمر وتعتبره مجرد محاولة من الإنقاذ لإشراك الناس لتحمُّل ما يترتب على الاستفتاء.. إن توحد ساسة بلادنا حكاماً ومعارضة يجعل الأمل في الوحدة أملاً كبيراً.. إن الوطن أغلى من ذواتنا وفي سبيله تهون الجراح، وإن كنا نمضي ننشد عند بعض الزعماء في خارج بلادنا حل مشاكلنا ما لنا لا نقبل دعوة البشير ابن البلد للتوحد لحل قضايا بلادنا الكبرى، أما أوصانا جدودنا زمان على الوطن وعلى التراب الغالي المالي لي تمن؟ إن سامر الانتخابات قد انفض والحديث والاجتماعات حول نتائجها يغدو حديثاً عقيماً، وعلى ساسة بلادنا الذين خاضوا الانتخابات فانتصروا أو انهزموا والذين قاطعوها.. عليهم جميعاً التوافق والتنسيق بروح القبول والرضا بما يرسل للعالم أجمع رسالة راقية تنطق بروح التحضر والتسامي وبما يجنب البلاد التمزق والتفرق.