في مناسبة الإحتفال بالعيد السبعين لميلاد الإذاعة السودانية، تذكرت فنانين عظيمين لم يتسنَّ للأجيال الجديدة التعرف عليهما جيداً، هما «صاحب عزة» خليل فرح، وصاحب «أناشيد المؤتمر» إسماعيل عبد المعين. الأول مولود في قرية دبروسة بمنطقة حلفا في العام 1894م لكنه لم يعش كثيراً إذ توفى في العام 1932م ولم يشهد بالطبع مولد الإذاعة السودانية في الثاني من مايو عام 1940م، لكنه - ومع ذلك - ترك أثراً كبيراً في بلادنا، وقد لفتّ إنتباه أستاذنا الكبير محمد سليمان الإذاعة والإعلامي المعروف في يوم الإحتفال بسبعينية الإذاعة وقلت له إن الأغنية السودانية الحديثة ممثلة في غناء الأستاذ خليل فرح، سبقت الأغنية الأم درمانية المعروفة بأغنية الحقيبة، فقد غنى الخليل باكراً وشارك في الحياة السياسية من خلال إنتمائه إلى جمعية الاتحاد السوداني التي تأسست عام 1921م، وعقد العشرينيات هو أحد عقود الثورات الكبرى في السودان، فقد شهد ثورة إجتماعية كبرى عقب ثورة 1924م، وشهد كذلك ثورة في عالم الغناء ومثلها ثورات في عوالم الفكر والتعليم لم يتوقف بعد ذلك مدّها إلى يومنا هذا.. وقد أمّن على هذا الرأي أستاذنا الجليل محمد سليمان الذي كنت أجلس إلى جواره داخل ستوديو السلام بالإذاعة، وأضاف إلى ذلك أن الكثيرين كانوا ينظرون إلى أغنيات الخليل في وقتها كأنما هي أغنيات أجنبية أو مصرية، لاستخدامه الآلات الموسيقية التي لم تكن مستخدمة في الغناء السوداني، ثم أنه كان يرتدي على الدوام الملابس الأفرنجية (البدلة والكرفتة) والطربوش مما جعل صورته تبدو كأنما هي لسوداني متفرنج أو متمصر، وهو لم يكن يخفي تأثره بالثقافة المصرية أو الفن الذي يأتي من شمال الوادي. بعد سنوات عديدة نال الخليل حقه واعترفنا به جميعاً رائداً من رواد الأغنية الوطنية بدءاً من «عزة» مروراً ب «نحنا ونحنا الشرف الباذخ» و«ما هو عارف» و«فلق الصباح» وغيرها إنتهاء ب «يا نيلنا يا نيل الحياة». وقد كان رحمه الله مؤثراً عندما يغني، وأذكر أن الموسيقار الكبير وأستاذ الغناء العظيم الدكتور محمد وردي، قال لي أنه ولد في ذات العام الذي توفى فيه الخليل وأنه تأثر به كثيراً وبأغنياته عندما كان طفلاً يستمع إليه من (فونغراف) قديم وأن أهله - وخاصة النساء - كانوا يبكون بكاءً مريراً عندما يستمعون إلى أسطوانات خليل فرح وهو يمدّ الآه طويلة في المقطع الثالث من أغنية (عازة في هواك) وقد ساد إعتقاد بينهم في ذلك الوقت إن تلك الاهات - آه أنا آه.. آه.. أنا آه) إنما كانت آهات الألم في مرضه الأخير. بعد ذلك بسنوات قال الموسيقيون ومن بينهم البروفيسور الفاتح الطاهر إن تلك الآهات الممدودة غير المقيدة بزمن، هي أسلوب جديد أدخله الخليل في الأغنية السودانية. الفنان الكبير الراحل خليل فرح أحد رواد الأغنية السودانية والأغنية الوطنية، لم يتسنّ لكثير من أبناء الأجيال الحديثة التعرف عليه.. وليت الإذاعة في عام الوحدة الذي رفعت شعاره الآن أعادت تسجيل عدد من أغنياته بأصوات الفنانين الشباب لبثها خلال فترة البث اليومي حتى ترسخ تلك القيم الرفيعة في نفوس أبناء هذا الجيل والأجيال القادمة. وليتها فعلت ذات الشيء مع أغنيات صاحب أناشيد المؤتمر، الذي آمل أن أفرد له مساحة هذه الزاوية غداً، لأعود وأكتب شيئاً من الفن بين الحين والآخر كما يريد لي عدد من الأصدقاء وأولهم الخبير الدستوري المعروف مولانا محمد أحمد سالم. .. و.. جمعة مباركة