لم أعرف أن القيامة قائمة في بحري .. إلا أمس ! المصادفة وحدها جرتني للتجربة، فلقد لجأت أمس للمواصلات العامة متجها من بحري، التي أتيتها (ترانزيت)، إلى الخرطوم حيث مقر (آخر لحظة) . منيت نفسي بمواصلات مرفهة، حيث تتملكني فكرة منذ عقود، بأن أحسن المواصلات هي المواصلات المرتبطة ببحري، وأن أكثر (المرطبين) من رواد المواصلات العامة .. هم سكان بحري الجميلة ! سألت أحد الواقفين في الشمس الحارقة : أين مواصلات الخرطوم ؟ فأشار إلى مكان على بعد عدة أمتار وقال : هناك .. عند الشجرة ! كان الرجل يقصد مكان التكدس المهول للمنتظرين، وكلهم من راغبي الوصول للخرطوم ! والشجرة التي أشار لها .. كانت أقرب للشجيرة .. يتقاسم فيئها صاحب (طبلية) .. ويتزاحم في بقية الظل الشحيح .. الفتيات ممن لا يردن أن تذيب حرارة الجو الكريمات التي تغطي وجوههن !! إذن فقد استدرجتني قدماي للفخ وقفت مع القوم في الشمس الحارقة، فقد قررت أن ألوي ذراع ضعفي، وأقاوم الرغبة الملحة في ركوب سيارة الأمجاد، فلست مستعدا لدفع عشرة جنيهات .. ثمنا لعبور كوبري المك نمر، الذي يوصلني مباشرة ل (آخر لحظة). الحافلات تتغشى المكان، فكل بضع دقائق تأتي حافلة من المتجهات للخرطوم، لكن المشكلة أن تلك الحافلات تأتي وهي تغص بالراكبين .. فمن أين يركبون .. الله وحده يعلم ! وعندما تصل الحافلة لمكان الشجرة المتكدسة بذوات الكريمات، يكون الواقفون في شمس الله أكبر قد شمروا عن سواعدهم، وأفردوا عضلاتهم، وأكملوا عدتهم للقفز والدفع والولوج .. متقاتلين على مقعدين أو ثلاثة مقاعد .. هي كل ما يتوفر داخل تلك الجميلة المستحيلة ! المتجمهرون لا يبدو عليهم أنهم ينقصون، بل تحمل الدقائق بنجاح، دفعات ودفعات من الناس، ترفد التزاحم، وتغذيه، دون كلل أو ملل ! حاولت أن أتخير مكانا، أستطيع منه الولوج للحافلة حين تأتي، لكن وجدت الأمكنة كلها زاخرة بذوي العضلات المفتولة، وبالمتحفزين لاحتلال المقاعد الثمينة .. في (قيامة) بحري .. الجميلة ! سألت أحد الواقفين : ألا تأتي (الهايسات) لهذا المكان ؟ السؤال كان رغبة في الخروج بأقل الخسائر، فلا بأس أن أدفع في الهايس جنيها، أو حتى جنيهين، لأهرب من الزحمة، وأتفادى استئجار الأمجاد أم عشرة جنيهات ! ابتسم الرجل، ورد بثلاث كلمات : لا توجد هايسات !! تحسست جيبي، وتأكدت أن محفظتي في مكانها، وتوجهت مجرجرا خطواتي .. صوب سيارة الأمجاد العتيدة ! عشرة جنيهات تفوت .. ولا حد يموت !!