لقد شهدنا في الأيام القليلة الماضية ولا زلنا نشهد سجالاً وشداً وجذباً بين طرفين في عملية أشبه بمباراة في شد الحبل. وأن أحد الطرفين يصر أن مشروع الجزيرة وامتداد المناقل في أفضل حالته ويتحدثون عن الجزيرة وكأنها حسناء باهرة الجمال مجلوة في ليلة زفافها وهي في كامل زينتها كالبدر في ساعة تمامه وأما الطرف الآخر فيصور المشروع وهو في حالة احتضار وفي انتظار الموت والرحيل الأبدي توطئة لايداعه في قبره مع انتهاء العزاء بانتهاء الدفن. وتدور الآن حرب اعلامية وكل تصريح من هنا يعقبه تصريح مضاد من هناك وكل ندوة تتبعها ندوة نقيضة لها وهذا يؤكد أن مشروع الجزيرة وامتداد المناقل في وضع غير طبيعي وبحاجة ماسة لمعالجات اسعافية آنية وعمليات جراحية جذرية. لقد أسهب الجميع في الرثاء وأكثروا من البكاء على الاطلال والدمن والخوالي وبعضهم وقف على الهامش وآثار قضايا جانبية وأخذ يتحدث عن الخراب الذي أصاب بيوت «وسرايات» المفتشين والاداريين التي بناها البريطانيون وسط الغيط وبعيداً عن القرى ومساكن المواطنين لأنهم في وطنهم الأصلي يحبذون العيش في هدوء في الريف البريطاني في منازل منفصلة متباعدة عن بعضها. وبمقاييس العقود الماضية من عمر الزمان كانت تلك السرايات والبنايات تعتبر تحفاً عمرانية متميزة ولكن العمران في القرى المجاورة لها تقدم عليها وصارت المساكن والبيوت أجمل منها. والقضية ليست قضية سرايات وبيوت مفتشين ولكنها قضية مشروع عملاق هوى من عليائه وهبط من قمته السامقة إلى السفح. وكان المشروع العملاق يعتبر من الأصول الاقتصادية القومية الكبرى والعمود الفقري لاقتصاد السودان ولكنه بكل أسف فقد البوصلة وأخذ يسير بلا دليل ويتخبط في بيداء التيه. وقد كان الشريف الحسين الهندي- وزير المالية في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي - يتجول في المشروع ميدانياً باللاندروفر ويوليه جل اهتمامه دون أن يكون في ذلك انحياز جهوي ولكنه كوزير للمالية كان يدرك أن خزينة الدولة تعتمد اعتماداً رئيسياً على عائدات الذهب الابيض الذي ينتجه المشروع وكان يقترض ويسد أي فجوة أو عجز يجابهه اثناء العام المالي ويكون رهنه وضمانه هو قطن المشروع العملاق. وكان للمشروع منذ انشائه نظام إداري ومحاسبي ومالي محكم ومنضبط وفي غاية الدقة كأنه ساعة «بق بونق». وكانت إدارة الشركة الزراعية تنتقي العاملين فيه من خيرة خريجي جامعات اكسفورد وكيمبردج. وبعد السودنة كان المحافظون الذين تعاقبوا عليه في قامة السيد مكي عباس والسيد مكاوي سليمان أكرت «وكيل وزارة الداخلية وعميد الخدمة المدنية» واضرابهما.. وجرت مياه كثيرة تحت الجسر بعد ذلك وفي خاتمة المطاف تم تسريح كل العاملين وتسليمهم حقوقهم والتعاقد مع قلة منهم بالمشاهرة لئلا يحدث فراغ إداري كامل وتبع ذلك القول بأن الحكومة سترفع يدها عن المشروع ليديره القطاع الخاص.. وهنا مربط الفرس. وتطل عدة أسئلة عن كيفية بيع الأصول ونصيب المزارعين في قيمتها.. وكيف توضع السياسات وتصنع القرارات ويتم اختيار الشركات وبيوت التمويل وكيف تنفذ السياسات وتنزل للواقع وهناك شح في المعلومات. وقواعد المزارعين العظيمة صاحبة الحق الأصيل ومالكة «الجلد والرأس» أضحت كالزوج المخدوع آخر من يعلم وما يدور من لغط يعتبر بالنسبة لها مثل «كلام الطير في الباقير» ويحتاج لإبانة وتوضيح. والآن فإن المزارعين على أبواب موسم زراعي جديد والمطلوب هو توفير الماء والتمويل والمدخلات الزراعية بلا ابطاء أو تأخير ودون الاكثار من إطلاق التصريحات التي لا تمت للواقع بصلة. وأن على الهيئة البريطانية لنواب الجزيرة واجب كبير وعليهم كممثلين للمواطنين والمزارعين ان يلتقطوا القفاز ويضعوا قضايا المشروع تحت مجهر التشريح الدقيق بغية الوصول للحلول المثلى مع وضع كل شيء تحت الأضواء الكاشفة وقد اضرت بالوطن كثيراً سياسة التخطيط والتنفيذ في الحجرات المغلقة. ونأمل أن تطالب هذه الرابطة البرلمانية بتمثيل معتبر للجزيرة داخل مجلس الوزراء ليكون صوتها مسموعاً وتكون قضية المشروع العملاق الجريح محل اهتمام الدولة واجهزتها العليا مع استثمار كافة العلاقات. وهناك قضايا تحتاج لمقالات منفصلة مثل قضية ملاك الأراضي .وأشير هنا إلى أنه توجد بمكتبة السودان بجامعة الخرطوم نسخة واحدة من كتاب ألفه القاضي البريطاني المستر بيكوك الذي كان مسؤولاً عن تسجيلات الأراضي والعقود والتعويضات وقد أورد تفاصيل دقيقة ويتضمن الكتاب العديد من الصور والعقودات ويمكن الرجوع إليه وأسعى لترجمته وتصوير عدد من النسخ منه ضماناً لحفظه وصونه. وقضية التعويضات لا تخص كل المزارعين ولكنها تخص شريحة من مالكي «الكروت» والاراضي المؤجرة وأصبحت القضية تسبب صداعاً للجميع لذلك ينبغي حسمها بأعجل ما تيسر والله من وراء القصد.