عقليَّة السرايات بقلم/ محمد قسم الله محمد إبراهيم [email protected] ثُمَّ إنّنا لن نمل الحديث والكتابة عن مشروع الجزيرة ، فليس لنا هنالك سواه من الذهب والبترول بما تتفجَّر به العصبيات في أطراف السودان .. سنواتٌ تطاولت وأرض الجزيرة تُعطي بلا كلالٍ ولا أذيً ، يوم لم يكن للخزينة العامة إلا لوزات القطن التي تنبلج في القسم (الوسط) وتفتيش عبد الحكم ومثيلاتها (تقنت تقنت ورباط رباط وإنقايه إنقايه) نعم ثمانية عشر قسماً ومائه وأحد عشر تفتيشاً تنتشر في السهل المنبسط بين سوبا ومكوار هي التقسيمات الإدارية والفنية التي أدارت هذه الرقعة الموروثة تحت إسم مشروع الجزيرة منذ المستر جتسكل آخر الإنجليز الذين حكموا المشروع وسلموه كإرث اقتصادي من ناحية أصوله وموجوداته ومخرجاته وإرث إداري لا يُستهان به كذلك من ناحية تقسيماته الإدارية والخدمة المدنية التي أرسي لها من بعد السودنة أول محافظ للمشروع وهو السيد مكي عباس عبد الله ثم مكاوي سليمان أكرت وحتى عهد عز الدين عمر المكي الذي يعتبره المتابعون لشأن المشروع آخر العمالقة قبل أن يفتئت عليه العنابسه. والمستر آرثر جتسكل كتب سِفراً عنوانه (الجزيرة .. قصة تنميه في السودان) الصادر في العام 1959 ونظرته للمشروع كذراع طويلة وفاعله في عمليات النهضة الاقتصادية والمجتمعية ربما كانت المعطيات الآنية وقتها هي كما رآها جتسكل وكما توقع لها مستقبلاً ولكن وبعد عشرين عاماً فقط وفي العام 1979 أصدر الدكتور توني بارنيت أستاذ العلوم الاجتماعية بجامعة الخرطوم كتابه (الجزيرة .. وهم التنمية)وذلك عندما زار الجزيرة ولفته بؤس الإنسان هنالك فأقام في قرية النويلة وكتب ما كتب وقد وصف في كتابه المفتشين الزراعيين السودانيين بأنهم ورثوا مساكن الإنجليز ومكانتهم وورثوا بجداره كذلك مشاعرهم الاستعلائية تجاه المزارعين .. وهنا مربط الفرس. عشرون عاماً فقط أحالت المشروع من قصة تنميه كما رآه جتسكل إلي وهم تنميه كما رآه بارنيت. وشتان ما بين التنمية ووهم التنمية فإذا كنا قد وصلنا لمحطة وهم التنمية قبل أثنين وثلاثين عاماً فيا تُري في أيِّ محطةٍ نحن الآن؟؟!! لقد أصبح مشروع الجزيرة بمرور السنين من أكبر مناطق جذب العمالة في السودان من كل القبائل خاصة من أهل شمال السودان، كما جذب إليه مختلف تخصصات أبناء العاصمة المتعلمين، بل أصبح منطقة جذب للعمالة الأفريقية من عدة دول مجاورة لعمليات الزراعة ولقيط القطن بما شكل بؤرة تلاقح وتمازج اجتماعي كان أحق بها أن تُرعي وتُحفظ كنموذج. وكان صادر القطن لوحده يشكل ثمانين بالمائة من دخل البلاد من العملات الأجنبية _ فتأمّل_فضلاً علي التطور الذي رافق توسع المشروع عاماً إثر عام مع تطور وسائل الحياة الاجتماعية بكافة أشكالها لسكان الجزيرة والمناقل ،مثل حفر الآبار الارتوازية ونقاط العلاج في الشفخانات ومراكز تعليم الكبار ورياض الأطفال والأندية الرياضية والاجتماعية في كل قري الجزيرة وحملات مكافحة الملاريا والبلهارسيا طوال السنة وحملات التطعيم الإجباري ضد الأمراض المعدية في قري المزارعين وكل تلك المنجزات كان يقدمها المشروع من صافي عائدات القطن عن طريق إدارة الخدمات الاجتماعية بالجزيرة حيث كانت تخصص لها نسبة معينة (اثنين بالمائة) من ناتج أرباح بيع القطن. وقد كانت إدارة الخدمات الاجتماعية من الإدارات ذات الشأن حينها وكان الصراع يدور عليها كثيراً لدورها الأساسي في بنية الخدمات الأساسية هنالك.وعلي الرغم من وجود هذه الإدارة التي كانت تستمد قوتها من المزارعين أنفسهم بعائداتها من الأقطان إلا أنّها كانت تقتصر خدماتها في جوانب ضيقه ولم تتمدد لإضافة تغيير جوهري في شكل المجتمع القروي في الجزيرة من ناحية الطرق مثلاً فلا تجد في الجزيرة كلها طريقاً مسفلتاً واحداً يربط بين قري المشروع ومدينة مدني أو رئاسة المشروع في بركات بالرغم من الفوائض المالية الضخمة التي تحرزها أرباح المزارعين وتذهب رأساً للخزينة العامة. وبالإضافة لما كان يقدمه مشروع الجزيرة من خدمات اجتماعية ضخمة كما ذكرنا سابقاً قبل انهياراته في السنوات الأخيرة، فإن آثار نجاحاته الجانبية الأخرى كانت تتمثل في انتعاش الأسواق المحلية بمدن وقري المشروع العديدة، وما رافق ذلك من قيام صناعات وطنية هامة تعتمد علي الخام الزراعي الناتج من المشروع كصناعات النسيج مصنع نسيج المزارعين كمثال ومعاصر الزيوت والصابون وقيام منطقة صناعات متكاملة في منطقة مارنجان كان يمكن لها أن تلعب دوراً هاماً وفاعلاً في الصناعة السودانية واقتصاديات السودان ككل ، ونشأت هنالك أيضاً مطاحن الغلال ولا ينسي الناس في الجزيرة مطاحن قوز كبرو و(لواري الردَّة) كما أُنشئت مصانع نسيج الصداقة في الحصاحيصا وغزل الحاج عبد الله وغزل سنار، وقيام صناعات غذائية في مدني و المناقل وسنار، فضلاً علي إتباع نظام الدورة الزراعية الذي يتيح للمزارع زراعة المحاصيل الغذائية والخضروات والبصل والفول، وهي محاصيل جانبية ولكنها مهمة للمزارعين ويدخل عائدها كاملاً ومباشرة إلي جيب المزارع وأسرته، وكذلك إدخال الحيوان في الدورة الزراعية وإتاحة زراعة الأعلاف ونشأ أيضاً تبعاً لذلك مشروع ألبان الجزيرة الذي كان يمتلك منظومة متكاملة ومتقدمه جداً في وقتها لجمع الألبان من المزارعين في قراهم .. كانوا يأتوننا باكراً في قريتنا حليوه يحملون الألبان إلي المصنع جنوب مدني علي طريق بركات ثم يحاسبوننا أيام الخميس من كل أسبوع ويوفرون لنا الأعلاف المصنعة بدرجه ممتازة والعجول الطلوقه والأبقار المحسنة .. كان إنتاج المصنع يملأ الأسواق من الألبان ومشتقاتها .. وتلك أيام حياها الغمام ريما نتذكرها بكثير من الإعزاز لكنها أيضاً تُصيبك بالتهابات المصران الأعور وانفجار البنكرياس. الشاهد أنّ المشروع تحول من قصة تنميه إلي وهم تنميه إلي ركام بمقتضي الحال بفعل هؤلاء المفتشين الزراعيين المنتشرين في أقسام وتفاتيش المشروع لقد ورثوا عن الإنجليز كل شيئ في طول المشروع وعرضه لكنهم لم يحسنوا إدارة هذا الميراث لقد أحسنوا إدارة شيئ واحد فقط هو الاستعلائية وعقلية السرايات ..ليت هؤلاء المفتشين ورثوا عن الإنجليز علو الهمة والبذل لأجل المشروع وأفضليته ..لقد تسرَّب المشروع أمام أعين المفتشين الزراعيين ولم ينبس أحدهم ببنت شفه. للحقيقة لا نغفل بأية حال عوامل أخري ساهمت بقدر وافر في تدهور المشروع لكن الوزر الأعظم يقع علي رأس هؤلاء المفتشين باعتبارهم حائط الصد الأول والمسئولين مباشرةً عن الإنتاجية التي تُبرر اهتمام الدولة بجدوى المشروع الاقتصادية. عشرات المقالات كتبها المهتمون بشأن الجزيرة وهذا أضعف الإيمان لكنني لم أقرأ مقالاً واحداً لمفتش زراعي واحد أكل وشرب من خيرات المشروع ..هم محض موظفين تربطهم (ماهية آخر الشهر) والحال هكذا لا يسعنا إلا أن نقول مثل هذا وإلا فأين الغيرة المهنية علي مشروع أعطي بما لا يحتاج لبيان؟؟ وأين الآليات التي وضعها هؤلاء المفتشون الزراعيون؟؟ أم أنّ الأمر (مولد وانفضّ)!!!! والناس هنالك في الجزيرة يذكرون ولا يزالون جناب الباب العالي مفتش التفتيش حين يتهادي بعربته والمزارعون من كبار السن يُمسكون بباب العربة ويهرولون بينما لا يكلف نفسه رهق الوقوف للحديث معهم وحل قضاياهم .. لقد رأيتُ بأم عيني مثل هذا يحدث والباشمفتش ضجراً يرمق رئيس مجلس الإنتاج بقريتنا ثم يُفرغ من فمه حفنة تعليمات وينصرف . ولعلّ مثل هذه التصرفات التي تصدر كثيراً من المفتشين هنالك خلقت نوعاً من الانفصال العاطفي بين المزارع وإدارته في التفتيش لأنّ هذا التعالي لم يكن يسمح له بمناقشة قضاياه كما ينبغي ..فقط كان متاحاً للمزارعين مقابلة صغار الباشكتبه ويقتصر مقابلة جناب الباب العالي المفتش علي بعض ذوي النفوذ من كبار أعيان الجزيرة وهذا معلوم ومُشاهد في الجزيرة مع سريان سطوه لم تكن تُخطئها العين لبدعه سادت في الجزيرة لأعوام طويلة أثري من ورائها الكثيرون هي بدعة المتعهدين وهذا مقامٌ آخر. أقول هذا التعالي المكتسب لدي المفتش انعكس سلباً علي الأداء العام بما تراكم بعد ذلك من التردي الهائل الذي أصاب مفاصل المشروع وأصوله وبتضافر عوامل أخري تدحرج الوضع بالجزيرة وبإنسان الجزيرة إلي ما هو عليه الحال الآن وسط صمت غريب ولا أقول مُريب من أهل الاختصاص من قبيلة المفتشين الزراعيين الذين أنفقوا سنوات وسنوات بين الترع والتقانت يُمارسون الأمر والنهي علي البسطاء، وبين السرايات الفخيمة التي تدهورت هي الأخرى وصارت أثراً بعد عين أمام مرأى المفتشين هؤلاء أنفسهم. ولقد ظننتُ وليس كل الظن إثم أنّ آفة المشروع هي في إدارته التي اقتصرت علي الزراعيين بينما الزراعيون مكانتهم الطبيعية بحكم التخصص هي أضابير البحوث الزراعية والشئون الفنية وللإدارة أهلها ومنهجياتها ولم تعد خبط عشواء. لقد تدحرج المشروع مثل كرة الثلج وبقيت السرايات الكبيره في الجزيرة وبركات تحفل بعشرات الزراعيين تحفل فقط وتحتفل بالعقليات الموروثة بالتعالي الكذوب دون البحث عن مخارج من الأزمة التي أنهكت المشروع أو حتى كلمه مجرد كلمه تُحسب في ميزان الحسنات.. والزراعيون هؤلاء صار بعضهم في مهب الريح بفقدانهم وظائفهم وآخرون هرولوا سبعة أشواط حتى يعودوا لمواقعهم من جديد .. أقول مواقعهم هم .. بينما المشروع لا يزال يُعاني تنظيرات المُنَظِّرين وهرطقات المُهَرطِقين خلف الأبواب المغلقة ولا عزاء للبؤساء.