حكاية أولى: بالأمس مع أول المساء حسمت أمري وتوكلت على الحي الذي لا يموت واتجهت إلى مركز التسجيل للانتخابات القريب من داري، وقمت بتسجيل اسمي واستلمت البطاقة الصغيرة المغُلفة ب«السيلوفان» وعليها اسمي الرباعي ورقمي الانتخابي، وبذلك «أديت واجبي الوطني» وصرت «مواطناً صالحاً» و«صُنت حقي» من أجل أن «أسارع للتغيير» كما تدعو بعض النداءات المحرضة على التسجيل. المركز الواقع في مدرسة «أم عطية الأنصارية» للأساس بحي أركويت، كان مدخله محاطاً بسرادق مكشوف تحلَّق حوله بضع عشرات من الناس وقليل من سيارات المسجلين وكراسي البلاستيك وطاولة صغيرة واحدة، فسألت الجالسين حول الطاولة إن كان بإمكاني التسجيل لديهم فوجهوني بالدخول إلى المدرسة حيث مركز التسجيل، وهناك وجدت شابتين جالستين وراء طاولة واحدة وبعض الناس واقفين وبعضهم جلوس ينتظرون، فقدمت بطاقتي ولم يستغرق الأمر أكثر من دقيقتين وسؤالين، واحد عن رقم منزلي والآخر عن رقم المربع الذي أسكن فيه حتى استلمت البطاقة الصغيرة، لكن ما لفت نظري هو أن شيخاً كفيفاً جاء متحمساً على ما يبدو ل«أداء واجبه الوطني»، وكان يرفع صوته بالسلام على جميع من يمر بهم بدءاً من السرادق وحتى وصوله إلى غرفة التسجيل. مثلما لفت نظري غياب أية لافتات أو «بوسترات» للدعاية الانتخابية، ما عدا واحدة يتيمة تخص المؤتمر الوطني وتحمل صورة الرئيس البشير، لكن «اللقطة» الأهم هي أن مركز التسجيل كان يلفه هدوء غريب، لا حوارات ولا نقاشات، هدوء يوحي بحالة التوجس التي يبدو أنها تسيطر على العقول جراء هذه الانتخابات «المفصلية»، كما يحب أن يصفها البعض، وبدا لي لحظتها أن «في الصمت كلاماً» كما يقول الشاعر. حكاية ثانية: نهار ذلك اليوم زرت أحد المكاتب ووجدت جماعة يتناقشون حول «ساس يسوس»، وبحكم الواقع فقد قادهم النقاش إلى حديث الانتخابات، فلخص أحدهم «حكاية الانتخابات» بقوله: لو فاز المؤتمر الوطني «أوب» وإن لم يفز «أوبين»، وفسر ذلك من بعد بقوله: إنه في حالة فوز المؤتمر الوطني فإن ذلك سيفجر الوضع باحتجاجات المعارضة المتصاعدة حول عدم نزاهة التعداد السكاني، وعدم نزاهة التسجيل الذي امتد إلى «مواقع العمل» واستخدام إمكانات الدولة لصالح حزبهم، وإذا لم يفز ف«أوبين» لأن المؤتمر الوطني الذي بنى «دولته» على مدى عقدين من الزمان لن يسمح بتغييرها أو تفكيك مؤسساته وكوادره التي تسيطر على كل المواقع، مُجسداً بذلك المخاطر التي تنتظر البلاد مع حلول الانتخابات. وجاءت صحف الأمس لتعزز تلك المخاوف والهواجس، فتحت عنوان «الحركة تتهم الوطني بخرق قرار تحكيم أبيي» قالت جريدة الحوادث في خبر رئيسي لها بالصفحة الأولى: «أعلنت الحركة الشعبية التوصل إلى طريق مسدود مع شريكها المؤتمر الوطني في مباحثاتهما حول عدد من قوانين المرحلة المقبلة، أهمها قانون الأمن الوطني والاستفتاء على تقرير المصير لجنوب السودان وقانون المشورة الشعبية لجنوب كردفان والنيل الأزرق، واتهمت شريكها بالتراجع عن بروتوكول لاهاي حول منطقة أبيي والتي رسمت هيئة التحكيم الدولية حدودها في يوليو الماضي».. لكن الغريب أننا نقرأ في نفس اليوم نفياً لذات الخبر في «السوداني» تحت عنوان: «الوطني: لم نصل مع الحركة لطريق مسدود»، فقد أوردت الصحيفة على لسان أمين دائرة الإعلام بالمؤتمر الوطني تصريحاً أدلى به لإذاعة «مرايا إف ام»، يقول فيه: «إن الحوار لا يزال متصلاً، مشيراً إلى أن الآلية المشتركة بين الشريكين هي التي تحدد نجاح أو فشل المحادثات». أما الخبر الذي يصب في نفس الاتجاه ويعزز صورة التعقيدات التي تكتنف الانتخابات فقد أوردته جريدة «الصحافة» تحت عنوان: «المعارضة تتجه لمقاطعة الانتخابات» ونسبت إلى مصادر وصفتها بأنها «موثوقة»: إن هناك اتجاهاً قوياً داخل الأحزاب المعارضة لمقاطعة الانتخابات المقبلة. وكشفت - تلك المصادر - عن توصية ستدفع بها لاجتماع رؤساء الأحزاب المشاركة في ملتقى جوبا، الذي سيُعقد في رابع أيام عيد الأضحى، بالمقاطعة بسبب عدم توافر استحاقات الانتخابات، بينما تعقد سكرتارية الملتقى اجتماعاً حاسماً الاثنين (أمس) للتحضير لاجتماع رؤساء الأحزاب ومتابعة مقررات إعلان جوبا. هذه هي إذن الأجواء الضبابية التي تلف «الانتخابات المفصلية» التي يعقبها بعد شهور معدودات - كما هو مفترض بحكم اتفاقية السلام الشامل والدستور - الاستفتاء على تقرير المصير للجنوب وأبيي والمشورة الشعبية لجنوب كردفان والنيل الأزرق، وقد يفسر هذا ذلك الصمت المتوجس الذي لمسته في مركز التسجيل الانتخابي بأركويت. حكاية ثالثة.. وأخيرة: في وقت متأخر من مساء نفس اليوم شاهدت فيلماً تسجيلياً عن رحلة الهاربين من الجحيم من الصومال وإثيوبيا عبر خليج عدن، من إعداد إحدى قنوات التلفزة الفرنسية، والرحلة المسجلة هي واحدة من آلاف الرحلات التي تتم بواسطة القوارب الصغيرة أو ما ندعوها نحن ب«السنابيك». تمكن مراسل القناة من إقناع أحد المهربين من تمكينه من متابعة رحلة الموت تلك عبر خليج عدن لقاء 400 دولار أمريكي، ووعد بتسليمهم 400 أخرى فور وصوله إلى الشواطئ اليمنية. كان القارب الصغير يبلغ طوله 10 أمتار وعرضه لا يبلغ الأربعة، وكانت «الشحنة البشرية» تتكون من 180 شخصاً - رجالاً ونساءً - وتستغرق ثلاثة أيام بلياليها. وكان لزاماً على أي من أفراد (الشحنة) أن يجلس القرفصاء في مكانه بالقارب طوال هذه المدة. وعليك أن تتصور ما يمكن أن يحدث لك ولأعضائك إذا ما وجدت نفسك على هذا الحال لكل هذا الوقت. كان المهربون رجالاً «عُتاة قساة القلوب» - بحسب المراسل - وبعض من استطاعوا العبور كانوا يمنعون «زبائنهم» الهاربين من الحركة أو الكلام وحتى (الشكوى) عندما يضيق بهم الحال، وكان صدور أي صوت يستدعي على الفور عصاة على أم رأس الشاكي أو الباكي ناهيك عن المحتج.. فالمحتج يُلقى به على الفور إلى أمواج البحر وجبة طازجة للحيتان. وكان على كل الناجين على ظهر ذلك (السنبوك) أن يترجلوا قبل الوصول إلى البر اليمني تماماً، وأن يخوضوا الماء لما يقارب كيلو مترين قبل بلوغ الشاطئ عملاً بتعليمات المهربين الذين يخشون أن يقعوا تحت قبضة خفر السواحل. تمكن المراسل من إجراء مقابلة (مصورة) مع أحد الهاربين من الجحيم، حيث اجتهد ومعه فريق التصوير من إيقاظه من نومة تشبة نومة أهل الكهف اقتضتها تلك الرحلة التعيسة، فقال لهم أول ما قال: إنني جائع ولم أنم لثلاثة أيام، ولم يكن أمامنا إلاّ الاستسلام للواقع الذي وجدنا أنفسنا فيه، مات بعضنا في القارب وألقى به المهربون في البحر، ولم يكن بإمكاننا مقاومتهم فهم مسلحون بالبنادق والعصي الطويلة. وكانوا دائماً يهددوننا ويقولون لنا إننا نستطيع أن نفعل بكم ما نشاء. أما المراسل فقد تم اعتقاله لأنه دخل البلاد بدون إذن رسمي ورُحِّل إلى صنعاء، وهناك وجد بعد أن أخلي سبيله بعض من رآهم في الرحلة البئيسة، يعملون في غسيل العربات ويعيشون في بيوت صنعوها من الورق المقوى (الكرتون) وأكياس البلاستيك الفارغة.. وسأل أحدهم: ما الذي يجبركم على هذه المغامرات الكاسدة؟.. فكان جوابه تلخيصاً لمجمل الأزمة: ما أجبرنا هو أنه عندما تكون الحكومة فاسدة يتوجب عليك أن تهم بالرحيل!!