احتضان الحياة: هناك بعض الناس ممن يحتضون الحياة، يتقبلون الحياة بشهية مفتوحة، يعيشونها بشجاعة، يتأملون ما فيها من إيجابيات، يحولون السلبيات إلى إيجابيات، الفشل لا يجعلهم يستسلمون في يأس، إنما يزدادون قدرة على مواصلة الطريق والرغبة في الاستمرار، يرون في الفشل خطوة إلى النجاح، وفي الألم طريقاً إلى السعادة، إنها شجاعة الحياة التي تجعلهم يتعاطفون مع كل شيء جميل فيها، عقولهم كبيرة.. أكبر من أن تضيق بها الحياة، أو يكون اليأس لها سجناً، يرون الحياة في كل شيء حتى في التراب والعشب، يعشقون الحياة بحرارة وانفعال وحماس.من بين هؤلاء الذين يحتضون الحياة يأتي الشاعر وولت ويتمان، والذي عنده نفس الروح هو الأديب رجاء النقاش، والذي ينضم مع الشاعر إلى من يأخذون الحياة بالأحضان.. لأنها معشوقة حبيبة، كل ما فيها جمال وعذوبة، ليس فيها قوة وضعف، أو جمال وقبح، بل كل شيء في الحياة قوي وجميل لأنه حي، فالحياة مجرد الحياة، رائعة، ولهذا يعيشون في سلام مع الله ومع أنفسهم ومع الآخر، والآخر هنا ليس الإنسان فحسب، إنما كل الكائنات الحية من نباتات تتألق في خضرتها، وطيور تحلق في السماء، وحيوانات تدب على الأرض. وهنا يقول الشاعر «ويتمان» متعاطفاً مع هؤلاء الذين طردتهم الظروف خارج دائرة المجتمع وجعلت منهم كائنات كأنها مرفوضة: أنا آتي مع الموسيقى قوياً مع مزاميري وطبولي أنا لا أعزف أناشيدي للظافرين فقط بل أعزف أيضاً للقتلى والمقهورين إننا نخسر المعارك بنفس الروح التي نكسبها بها فألف مرحى للذين فشلوا للذين غرقت مراكبهم في البحر والذين غرقوا هم أنفسهم في البحر إنهم لا يعرفون كم هم خالدون ولكن أنا أعرف أنا الرجل الأبي الذي يشعر كم يؤلم المرء أن يهان ويستمر شاعرنا معبراً عن حبه للشفاه التي تبتسم، والعيون التي تذرف الدموع، ويمتد إحساسه الشامل بالحياة إلى الزهور والأعشاب، ويرى أن الإنسان عندما يتحول إلى تراب يدخل من جديد في تركيب النباتات، فالنبات يتغذى من التراب الذي يتكون منه جسد الإنسان، فلماذا لا تكون الزهور والأعشاب التي نراها هي في الأصل فتاة جميلة عذراء؟.. أو شاباً وسيما شجاعاً؟.. أو طفلاً طاهراً بريئاً؟.. ويقول شاعرنا مخاطباً عشب الأرض: إنني بحنان أتناولك أيها العشب فلعلك طلعت من صدور الفتيان الذين لو عرفتهم لأحببتهم لعلك من عجوز أو من طفل انتزعوه من حضن أمه إن أصغر نبات على الأرض يبرهن على أن الإنسان لا يموت، ولو كان هناك موت فإنه إلى حياة، كل شيء يسير إلى الأمام ولا شيء يزول، كل إنسان هو حي لأنه إلى القيامة مصيره، وفي يوم القيامة تجتمع ذرات جسد كل إنسان بمفرده من كل فج وصوب، لهذا قال السيد المسيح: أنا هو القيامة والحياة، من آمن بي ولو مات مسيحياً، وهكذا يحمل شاعرنا دعوته إلينا أن نحب الحياة، أن نقبل عليها؟ أن نبتسم في وجهها، فالحياة جميلة حتى في عذابها وعصيانها، جميلة حتى في الناس البسطاء، والعصاة والخاطئين، والذين فشلوا وغرقت مراكبهم في البحر. إحساس شعري: إن إحساس الإنسان بالحياة هو إحساس شاعري، فيه يتعمق المرء بنفسية الشاعر ليرى كل ما في الوجود شيئاً جميلاً، ويدعو من غرقت مراكبهم في البحر الى أن لا ييأسون إنما ينقذون مراكبه ويصنعون مراكب جديدة ويتسلطون على البر والبحر والجو، لقد شعر أبو العلاء المعري أننا إنما نسير على تراب الأرض وهو في الأصل بشر، لهذا قال: سر إن استطعت في الهواء رويداً لا اختيالاً على رفاة العباد خفف الوطأ فما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد أما إيليا أبو ماضي فيرى أن الحياة قصيدة: إن الحياة قصيدة أعمارنا أبياتها والموت فيها القافيةمتع لحاظك في النجوم وحسنها فلسوف تمضي والكواكب باقية والحياة شباب والشباب أبو المعجزات، والإنسان شاعر تائق إلى الحسن في الناس والكائنات، يحب الزهور ويهوى الطيور، ويقول لنا أبو ماضي: ففي الأرض سحر وفي الجو عطر فيا للكريم ويا للهبات أمامكم العيش حر رغيد ألا فاغنموا العيش قبل الموات والكل يطالب الذين غرقت مراكبهم في البحر عدم ضياع الوقت، إنما الالتفات إلى جمال الحياة، فلا نغرق مع مراكبنا إنما ننقذ حياتنا من الضياع.