مروي.. رصد مسيرات فوق ارتكازات الجيش السوداني    إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    عن ظاهرة الترامبية    سفير السودان بليبيا يقدم شرح حول تطورات الأوضاع بعد الحرب    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محاورة النص بوجعٍ أقل
نشر في الأحداث يوم 08 - 05 - 2012

المحاورة لمجتزأ من نص طويل بعنوان: [(كن) المعركة، عن تحقيقات كانَ]. لمأمون التلب. نورد نصاً للشاعر ونحاوره، هكذا، يستمر الحوار؛ ونأمل أن نضيف بذلك فهماً أفضل للنص الجميل.
كنت أحاول أن أستريح قليلاً من وجع الكتاب، وسيلان الإبهار؛ فيغافلني قلبي! كنت أحاول أن أُغَيِّرَ شكل كتابتي فتتمرد عَلَيَّ أصابعي، وتقفز كأطفالٍ مشاكسين فوق سياج حدائق الشعر، لتقطف اللوز والقصائد والفوضى، وتكتب أسماء «الكائنات». تُرَى، كيف تبدوا حديقة الشعر بلا هؤلاء «الكائنات»؟ ومن هو ذلك الولد المفتون بجمال اللغة؟ ويُسرِجُ القول ويطلقه كالريح في وجهي؟ ( الكائن الحي الوحيد هو الموت!). ياااااه، مأمون التلب، الآن، يكتب (مَكَاتِيْب الرُّسُل، حَوْلَ تَفَوُّهَاتِ الزَّمَان) قاطعته بدهاءٍ إبليسي:
مهلك؛ ماذا رأيت أيها الكائن بين الكائنات، قل لي ماذا رأيت؟ واثقاً، كحبلٍ معقودٍ على طرفيه، قال :
(رَأَيتُ مَا أَصَابَ وَجْهَ الحَمَامَة
والْمَاءَ الَّذي شَرِبَتْهُ صَبَاحاً
بَيْنمَا يمرُّ وَلَدٌ بنَظْرةٍ خَافِضَةٍ أَبْرَزَهَا تَأنِيْبٌ أُمُوميٌّ
وكَانَتِ الرِّيحُ تُدْرِكُ أنَّ لها أَطرَافاً وحَوَاسّ، بعدَ أن وَسَّعَتْها أَطْرَافُ الكَّائِنَات).
مقاطعاً، مرةً أخرى، قلت: ياللحمامات، حين يَنزِفنَ ماءَ العيون، وسلامهن/ رمزهن، المحفوف بالهديل، يعاني الكمون! والكائنات تعرفها هي الوحيدة بين الوحيدات؛ لها حقّ التغزل علنا لعناب البنات، وجدائلهن؛ في الشوارع، وساحات المدارس والمقاهي والتظاهرات ودواوين الشعر، والحانات التي ابتكرتها مخيلة السكارى والصعاليك، وفي الحدائق العامة والندوات؛ فكيف لا يكونوا حضوراً في بهاء الشعر؟ أمام الملأ؟ وكيف يجرأوا فيتهمونهم بالمروق وإفساد الشعر، وقد جعلوا أسماؤهم عناوين في ملامح من يبتغون الشروق؟ قل لي ياصاحبي، ماذا رأيت أيضاً؟.
قال:
(رَأَيْتُ مَا أَصَابَ كُمُونَ الْمَطَرِ اللَّيْليِّ فِي عَيْنِ القِطِّ مُمْتَلئ،
وأُنثَاهُ _بِسَهَرٍ عَلَى لِسَانِهَا_ تُسَرِّحُ شَعْرَهُ،
بَيْنَمَا جَرَسٌ فِي ضَفِيْرَةِ البِنْتِ يَنْمُو عَلَى مَهْلِ أَصْدَائِهِ).
قاطعته، كمن يستنكرُ وضعاً أحدثه لتوه: ولكن، ألم تدرك بعد أن القطط مثل العُشَّاق ياحبيبي، وأنها تسعى، مثلهنَّ، للعناق؟ و، ألسنتهن مُقبِلاَت، في وجدِ الليالي، مشرعات كما الشفاه للقبلات؟. عاد يسرح في ضفائر رؤياه كأنها أنثى يانعة وقال :
(وكَانَ الأَبُ يَفْحَصُ رُجُولَتَهُ بالنَّظَرِ إلى بَابِ البَيْتِ الْمَفْتُوحِ طَوَالَ اللَّيْلِ لأَشْبَاهِ الظِّلاَل.
بَيْنَ هَذَا وذَاك:
كَانَ كَمَانٌ يَعْزِفُ وَحْدَه؛
مَشْلُولَ التَّجْوِيْفِ وعِظَامِ الإيْقَاع،
شَرَرٌ يَنْبُعُ مِن فَمٍ يَتَذَوَّقُ آخَرَاً فِي الزُّقَاقِ الخَلْفِيِّ للبَيْت،
أبْطَالُ الأَفْلاَمِ الكَرْتُونِيَّةِ يَتَسلَّلُونَ مِن أَحْلاَمِ الكِبَارِ مُلُوكَاً لا كَابِحَ لحَقِيْقَتِهِم
وشوَاءُ الجِّيْرَانِ يَبْلُغُ أُذُناً نَاضِجَةً تَبْدَأُ أَذَانَ الفَجْر.
يَالَهَوْلِي،
وأنَا عَاشِقٌ،
يَمُرُّ كُلَّ هَذا اللَّيْل دُونَ أنْ أَعُدَّ أصَابِعَهُ الْمُجْرِمَة!
هَلْ مِن سَبِيْلٍ لإخْرَاجِ الحَمَامَةِ مِن جَفَافِ حَلْقِي
والْمَطَرِ مِن سُرَّتِي الوَلِيْدَةِ للتَوِّ
والْمَشْهَدِ الوَسَطِيِّ مِن يَدِي الَّتِي سَتَقْتُل؟.
البَيْتُ
جَسَدٌ
يُوْرِقُ
أَسلِحَةً
وسَاحَاتِ حَرْبٍ
تَتَفَرَّسُ وَجْهَ الكَوْن).
تَحَيرتُ قليلاً قليلاً، في هذا الكون المُعتَم، وتذكّرت ركن البنت المظلم وبابها المفتوح الليل بطوله لأشباه الظلال؛ فهل كل الحقائق ياصاحبي في هذا المدى المكتوم، حباً ودلال، هل، هي الآن، تُقَال؟. تذكرت « سان جون بيرس:
(وكنت أنا نائمةً على جنبي الأيمن،
أصغي إلى خَفقِ دمكَ الجوَّاب قرب عنقي،
عنق المرأة العارية).
فياللبنات؛ ترقشهن الظلال! كلماتك، آآآه، يا مأمون حبيبي، كلماتك أحالت البنات غابةً من نوافذ، ومطر، وحنينٌ من أصابع تَتَلَمَّس نبض الأشياء؛ كلماتك، كلماتك، ما جدوى البِنَيّات الصبايا بلا ارتعاش كلمةٍ؟ وما جدوى العالم بلا أنفاس امرأة؛ بلا نسغٍ، وأمطارٍ وعيونٍ سود؛ وأرصفةٍ وقمرٍ مسافرٍ ونوافذ ياسمين؛ وشعراء مطاردون وملعونون من السلطات؛ وكتب وقصائد ممنوعة؛ وأحزان وعشب أزرق، ويديك؟. دَعهُم ياصاحبي مشلولون أمام أبواب البنات، المُشرَعَات في ليلهن الحصين، وما من سُكَات!. فالكمان «المشلول التجويف وعظام الإيقاع» قد أوصل لحناً في الناس؛ أوصله حتى تويجات القاع! دعهم أيضاً في شواء الفجر، وتعليم البنات خلاعة الرقص قرب النهر.
لكن العاشق وَلهَان، يالهولي أنا، فالعاشق أيضاً حيران!. لكنه، إذ يبدأ، يكسرُ الليل شظايا، ويكبح حقائق الطغاة؛ يحيلهم إلى رماد المنايا، قد «أحصي الأصابع المجرمة» كلها؛ وأطلقُ سراح الحمامة المسجونة في الحلق، و... أُمطِر؛ أمطرُ حَشَفَاً مُرَّاً في الحلق! كان يرقص؛ يرقص يرقص، في مشهد البنت والأسلحة، وغابت عن سماء المدينة رايات الخديعة والأضرحة! فالبِنَيَّات ياصاحبي غَدَونَ الآن في المعركة! لكن، قل لي، ماذا شابها المعركة؟ كيف رأيتها، وفي رؤياك مذاق البارود والأسئلة؟ قال:
(إنْ كَانَ لِهَذَا اسْمٌ
فَليَنْطق بِهِ أَحَدٌ
لتَنْبُتَ عَلَى شَفَتَيْهِ الجُثَثُ أَنْهَاراً مِدرَارَةً بالأُمُومَةِ والحُبّ.
إنْ كَانَ لِهَذا تَارِيْخٌ
فليُؤَشِّر لِعَيْنِهِ أَحَدٌ
لتَسْتَرِيْحَ القِيَامَةُ مِن عِبْئِهَا الطَّويْل؛
أَيَّامٌ تَحْسِبُ أَعْمَالَ الأَحْيَاء والجَّمَادَات،
وتَجْوِيْعُ النَّار لأَجَلٍ مُجَلَّلٍ بالنَّوَايَا والظُّنُون).
يااااه، جثث الأمهات، المحبات، الحالمات، ياله من تاريخ؛ ياله من تاريخ! استَطْرَدَ يحكي حالته وقد بَدَت معطونةً برهقٍ كثيرٍ ومزامير تَتَحشرج، لكأنها تصدأ، لكنها بالكاد تنير:
(كُنتُ فِيمَا يُشْبِهُ سَمَاءً تَزْحَفُ عَلَى بَطْنِهَا،
ظَهْرُهَا لا مَكَانَ فِيْهِ لجُذُورٍ،
فِي الأَعْلَى تَسْطعُ النُّسُور بأجْنِحَةٍ مُظْلِمَة،
فِي الأَسْفَل كَانَتْ الطَّوَابِيْرُ الهَالِكَةُ تَنْتَزِعُ عُيُونَهَا،
تَعْصِرُهَا
لتَخْرُجَ مِنْهَا الحَيَاةُ وتَعْتَرِفُ).
قاطعته، وقد رأيت ما رأيت: «هي القيامة، هي القيامة، قيامة الجثث النائمة» قال، يواصل ما اعتَرَفَت به الحياة:
(لِمَاذَا يَبْدُو خَيَارُ الوِلاَدَةِ كَأَنَّهُ مِن أَوَامِرِ الْمَوْلُود؟
إذْ يَطْلُبُ الْمَوْلُودُ مُلكَاً ويقوِّضُ صِرَاعَهُ
يَتَجَرَّعُ الجَّهْلَ ويَعْرَقُ يَأسَاً عَيْنِيَِّاً
كَانَ ومَا زَالَ جَسَدهُ سَاحَةَ مَعْرَكَةٍ يَسْكُنُهَا العَرَّافُونَ بِثِيَابٍ خَفِيَّةٍ
ولا تَزَالُ يَدُ خَالِقِهِ مُبْهَمَةَ الْمَعْنَى فِي الأَحْلاَم؛
مَكْسُورَةَ الشَّكلِ خَلْفَ دُمُوعِ كَوَابِيْسِهِ،
فَقَطْ؛
مَخَالبُ اليَدِ بيِّنةٌ
مَا عَدَا ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ يَحْيَا،
بِتَبَادُلٍ لا يَنْفَدُ للقَتْلِ يُسَمِّي نَفْسَهُ.
مَا عَدَا ذَلك؛
سِيْرةُ الخَيَالِ، بِقُبْحِهِ وعَجْزِهِ، يَتَمَلمَلُ بأنْفَاسِهِ الأَخِيْرةِ تَحْتَ قَبْضةِ الزَّمان).
نعم؛ (كأن الولادة خيار المولود)، وبعد أن يولد تبتدئ سيرة الوجع، في مسيره الدامي (يعرقُ يأساً ويَتَجَرَّعُ الجهل)، ويعيش، جسده الملعون، معارك شرسة؛ يراوغ العرافون وما تصله من أصابع يدي الخالق، يلجمها أحياناً ليُوقِفَ نوافير الحرقة المتفجرة، ولجامات قلبه الصاهل في براريه الشاسعة! بيده يَقتُلُ ويُسَمِّي نَفسَهُ، يسمِّي قَتلَهُ في سيرة العجز والمهزلة، فمن يملك إدعاءاً الآن ليسميها مرحلة؟ والزمان قبيحٌ قبيح، قميء ياسادن المعرفة:
(مَا كَانَ زَمَاناً تَسْبحُ دَاخِلَهُ:
قُبَلٌ لم تَكْتَمل،
أشْبَاحُ أبْنَاءٍ يَرضَعُونَ لا زالوا مِن أثْدَاءِ أُمَّهاتِهِم
تَمْزِيْقٌ مُسْتَمرٌّ لصُورَةِ الأَبِ مُبْتَسمَاً خَلْفَ سِيَاجٍ يَحْمِلُ جَسَدَ ابْنِهِ الدَّامِي).
مهلاً، مهلاً يا صاحبي، قاطعته: كيف يُقَسِّمُ هذا الزمان الدامي نفسه، كيف يجعلها برهة قاسية؟. يواصلُ كأنه يُحدِثُ وجعاً جواهو :
(فِي الثَّانِيَةِ الأُخْرَى
بَيْنَمَا يَحْمِلُ طِفْلٌ قَطَرْةَ مَاءٍ حَيَّةٍ رَاكِضَاً _بِقُوَّةِ فَنَائِهِ_ نَحْوَ جَدَّته ليُبْهِجَهَا بِلَمَعَانِ القَطْرَةِ،
هِيَ تَتَحَسَّسَ ظَمَأ حَكَايَاتِهَا القَدِيْمَةِ،
تَعْرِفُ الوُجُوهَ الْمُكْفَهِرَّةَ الذَّائِبَةَ عَلَى سَطْحِ بُوَيْضَاتِهَا الشَّبَحِيَّةِ).
تَنَبَّهتُ فجأةً للتي قد كانت، وهي الآن كائنةٌ فينا، وكائنة: «رشيدة حبيب الله» هل كانت هي الجدة الكائنة؟ فقد كانت، أيضاً، تبهجها جداً قطرة الماء الحية! وزماناً طويلاً كانت تعرف الوجوه المكفهرة في لمعانٍ زائف، وتتحس، بسليقةِ العين وصفاء البصيرة، كيف تشتغل المحنة حتى لتغدوا وجعاً راعف! أبداً ما أبهجها بريقاً يَتَصَنَّعُ ملامح الملائكة، ولا فرح الزغاريد في الوجوه اللامعة! تحذق، تحذق، ما هو عندها، وما هو في أصلاب الفتية الخارجة! لا؛ لست أفتق منك مكامن قد انسدت، ولا عقداً لديك قد انفكت! لا عليك، إذن، ياصديقي. وقل لي ماذا رأيت في الثانية التالية؟ تَنَهّدَ ونَطَقَ كمن يحدث نفسه:
(فِي الثَّانِيَةِ الأُخْرَى
بَيْنَمَا تَقْفِزُ الشَّامَةُ مِن نَهْدِ الفَتَاةِ لتَبْحَثَ عَنْ كَوْنٍ لتُصْبِحَ ثُقْبَهُ الغَائِر،
بَيْنَمَا يَتَحَسَّسُ الوَلَدُ كَيَانَ شَيْبِهِ مُحْتَشِمَاًَ؛
شيبٌ يَرمُقُ نُطَفَهُ مَطْعُونَةَ الظَّهرِ
يا لَهَا مِن نِهَايَة)!.
الولد، إذن، أصبَحَ في الشيب محتشماً، ويرغب، يرغب ويسعى أن ير، وأن يكون مرئياً! لكن النهايات مطعونة راعفة، النهايات تغدو في ربيع العمر جراحاً نازفة؛ ألم تر، ألم ترى سديمها؟ ألم تُحصِي كم بَقِيَ من الأحلام والسنوات والبكاء؟ ألم تَرَ الصمت قد طال السماء؟ ألم تتفرس وجوه الفتيات وكلهن يحملن ملامحك؟ ولكن، أينك، أيها المبصر الرائي، أينك؟.
(فِي الثَّانِيَةِ الأُخْرَى
تَعْبُرُ نُبُوءَاتُ الْمَجَرَّةِ كَامِلَةً شَوَارِعَ أَلِفَتْهَا،
تَخْتَالُ بِثَوْبِهَا الرَّمَادِيِّ؛
تَنْقَشِعَ اللُّغَاتُ مِن خَلْفِهَا
كَاشِفَةً جَسَدَ الحَرْبِ البَشَرِيَّةِ تُرَفْرِفُ دَاخِلَ جَمَالِهَا.
يَا جُمْجُمَةَ الوَادِي:
قَرْيَةٌ تَنَامُ دَاخِلَكِ،
مَدِيْنَةٌ تَهُشُّ الكَوَابِيْسَ بَيْنَكُمَا.
يَا جَمْرَةَ الآتِي مِن لَحَظَاتِ ولاداتٍ مُتَتَالِيَة).
أعرفها، تلك الكوابيس والجماجم، إنها تأتي، حينما تأتي، جمراً متلاطم؛ إنها الحرب تَتَعَرَّى لتنهض فينا فتنتها، وتستعر تواريخها جمراً ولظى، تكتم اللحظة الضاحكة، ففي ليالي الحرب الطويلة تبدوا السماء أحياناً بلا نجومٍ وذكريات، لكنها تُحَرِّضُ البرهة لتغدو كوناً في الناس، أشواكاً ورملاً وملحاً في النعاس، فكيف تكون الثانية التالية؟ والولادات متتالية، متتالية؟. قال حبيبي وهو يضحك، ضحكته الأسيانة الباكية:
(الثَّانِيَةُ الأُخْرَى لَيْسَتْ تَالِيَة،
أصلاً بِجَانِبِ (التَّالية) تَحْيَا، وتَفُورُ بِمُقْتَنَيَاتِهَا الأَلَمِيَّة
خَطْفٌ مُسْتَمِرٌّ لآيَاتِ الأَنْبِيَاءِ نَحْوَ غَابَةِ أَحْدَاثٍ تُبْصِرُهَا العَيْنُ الْمَدْفُونَةُ مِن خَلاَلِ دُوْدِهَا).
ما استطعت، من بعد، سكوتاً؛ فالأنبياء قتلوا من الأحداث توهجهاً، حتي غدت وهي الجريئة الباسلة هامدةً كأنها من برهة الزمان، نائمة! يالهولهم، وسوءاتهم الواضحة، الواضحة! واصل في سرده و ... انتبه:
(الثَّانِيَةُ الأُخرَى مَا يُجَاوِرُ القَتْلَ فِي سَرِيْرٍ طَافِحٍ عَلَى نَهْرِ الأَبَدِيَّةِ
حَيْثُ تَتَلَفَّتُ الغُزْلانُ بِجُرْأَةِ مَاءٍ أَزَلِيٍّ يَنْتَفِضُ مَفْتُونَاً مِن شَعْرِهَا الصَّحْرَاوِيِّ
حَيْثُ الْمَشَانِقَ تُطَارِدُ حِبَالَهَا بِمَا فَاضَ مِن رَسَائِلِهَا لارتِجَافَات أَعْنَاقٍ جَاسَدَتْهَا.
أيُّهَا الزَّمَان؛).
دقيقة، دقيقة، قاطعته، بجرأة المُتَوَهِّج، كثير الدلالات والحجج: ولكن، كيف رأيتها، المشانق التي تُطَارِدُ حبالها تجاهد أن تنأَى عن جاسدتها؟ يواصل:
(أيُّهَا الزَّمَان؛
لَدَيْكَ تُرَابُ القَبْرِ مَحْمُولاً عَلَى يَدِ اليَتِيْمِ،
يَتَسَرَّبُ مِن أَصَابِعِهِ حَامِلاً مَعَهُ بَصَمَاتٍ ولَيَالٍ أَلْف،
لَدَيْكَ الوَهْب،
وكِبْرِيَاءُ النَّارِ تَتَجَذَّرُ فِي نَسَبِهَا الشَّيْطَانيّ.
وهَلْ لَكَ منَّا عَهْدٌ؟
لتُسَابِقَ رُمُوشَنَا للبُكَاء
لتَلْتَقِطَ القُبْلَةَ من عَاشِقَيْن
وتَقْذِفُهَا فِي حُلْمِ صَبِيٍّ يَعِيشُ فِي القَرْنِ الأَخِيْرِ مِن القِيَامَة؟
وهَلِ الحُب،
وما شَابَهَ أَنْحَاءَ أَسْلِحَتِهِ وقَتْلِهِ
يَتَجَلَّلُ تَحْتَ يَدِكَ الْمُتَفَانِيَةِ فِي الإفْنَاءِ والْمَحْو؟).
تَحَسَّرتُ؛ تحسرت حتى بكيت! قلت لا، ليس إليه بل للزمان الفهيم، الزمان الكليم، و.. لنفسي: ظلام كثيف كثيف، وبقايا جثثٍ ومعلباتِ طعامٍ طافية، الاتصالات مقطوعة، ياللعزلة الكائنة؛ ثمة أصدقاء رحلوا بين أعواد المشانق اليابسة، وتركوا، لنا، وجع البقاء مع ذكرياتهم! قصفٌ، قصفٌ، قصفٌ شديدٌ جداً؛ لا مجال للغناء والرقص، من، ياتري، في هذا الزمان الكوني الكتيم، الكتيم اللئيم، اللئيم اليتيم؛ يفهم فوضانا؟. نحن الذين عَلَّمتنَا الحرب؛ الحرب الضروس المشتعلة في الدم والخاصرة، المزروعة شوكاً في برهتنا الراهنة، أن نترك أشياؤنا كما هي، عارية عارية، و... نمضي إلى «التالية»؟ فإلى أين نسير ياصديقي وماذا سنرى؟:
(أُنْظُر للطَّرِيْقِ إذاً،
وَتَغَيَّر لِمَرَّةٍ إذْ لا يَمْشِي عَلَيْهِ أَحَدْ،
ولا تُحْدِث (فِعْلاً) يَشِي بِوُجُودِكَ لِمَرَّةٍ وَاحِدَة،
سَتَرَى حِيْنَهَا:
هَامَاتٍ تَتَسَامَقُ لأسْفَلِ سَافِلِيْن،
حَيْثُ تَكَالَبَتْ أَجْنِحَةُ الْمَلاَئِكَةِ عَلَى دَمِ الحُرُوبِ الْمُتَكَلِّسِ،
وحَاوَرَتْ لُزُوجَةَ الرَّائِحَةِ هُنَاك،
وأَشْبَاهَ الأَصَابِعِ وَهِيَ تُعَلِّمُ أَسْمَاءَ الاتِّجَاهَاتِ بالتَّهْدِيْد
(والجِّهَاتُ _تَعْلَمُ_ مَحْكُومَةٌ بدَوَرَانِ الأَرْض، وأسْمَاؤهَا شَهْوَةٌ للمَرْكَز)
هُيَامَ الفَتَيَاتِ الْمُرَاقِبَاتِ مَا يَحْدَثُ فِي الأَسْفَلِ يَسْطَعُ؛
أقْمَارَاً هُلاَمِيَّةَ الجَّدْوَى واختِيَارَاتُهَا نَافِقَةٌ بِحَسْرَة.
لِمَرَّةٍ قَاوِمْ مَرَارَةَ أَصَابِعِهِنَّ،
ومَرِّر لِسَانَكَ وارْفَعْ بَصَرَكَ إليهِنَّ وقُلْ:
هَلْ للتَّقْوَى مَكَانٌ؛
والإيِمَان؟).
قلتُ إليه أنا: الطريق وحيد، والوحيدُ غريق، ولا من مكان يسعهما :(التقوى والإيمان). جمراتُ الحريق يُرَاكِمْنَ في الأجسادِ صديداً و.. ضيق! وما من صديق، ما من صديق، تذكرته في البرهة الراهنة، تذكرته،وهو الصديق الرفيق،هل تذكره ياحبيبي؟ أَرَاجُون، ممتلئاً بالزمان الصفيق، كان يقول :
(لستُ ممن يخدعون العالم،
أنتمي بأكملي إلى هذا القطيع العظيم الحزين،
قطيع البشر!
كافحتُ بذراعيَّ الحريق في كل مرة،
وعرفت الخنادق والدبابات.
وقلتُ دوماً، بلا حذرٍ، أسوأ خواطري في وضح النهار
ولم أنسحب عندما جاءوا ليبصقوا في وجهي!
وتقاسمت الخبز الأسود والدمع مع الجميع!
أخذت نصيبي من المرارة،
وحملت حظي من الشقاء،
لم تنته هذه الحرب أبداً بالنسبة لي،
ما دامت أطراف شعبي ممزقة .
ألصق الأذن بالأرض،
ما زالت تصل إليَّ تنهدات بعيدة مخيفة،
تخترق لحم عالمٍ أَصَمّ،
لا أعرف النوم، وإذا أغمضتُ العين يوماً،
فإلى الأبد..).
يااااااه، كم أُحِبّهنُّ، البنات الصبيات، الجميلات، جرح عمري المديد، بادلنني الوهم بالحلم، رقصاتهن تَرتِقُ ظلي في الطرقات. انتشلنَنِي من ركام الخراب، وجراح الحراب. كم أخذن بيدي للبراح الفسيح، من باب لباب، لا المركز يجعلهن في البهاء، ولا الهامش يحيل جراحهن أغنياتٍ في النداء! فكيف تصف أنت إليهنَّ الغابات التي حَلِمْتَ بها، والأرصفة التي سَهِرْتَ ونمت فيها، ودخان السجائر والقصائد، وحمى المصائد، والشوارع والباصات والنساء والمكتبات والأحزان؟ هكذا، إذن، تصف حتى نبض قلبك المندى بالأمل وقد دنا في السهاد؛ تصف كل ما رأيته أيها الرائي في حياتك بمنتهي العذوبة والألم، مخبئاً نصف ذكرياتك على الأقل، كأنك تحذو حذو «أميليو برادوس»، فتسير خلف ضفائرهن:
(أسير في إثرك،
خطوةً.. خطوة،
ألا ترين ذلك؟
فأني أضيع،
خطوة ... خطوة).
تَنَهَّد، عميقاً وطويلاً، صاحبي؛ بألمٍ يختبئ خلف قلقِ أصابعه، خشيةَ أن ينتبه الحَرَس، عندما يشرع يدق، مع نبضات القلب إليه، الجرس! لتكاد ترى دم الشاعر فيه يَتَسَلَّق ليبلغ أطراف جسده، و ... أجسادهن!. أخيراً قال:
(في الثَّانِيَةُ الأُخْرَى؛
إنْ شَاءَ الْمَوْلُودُ،
يَرَى الحُضُورَ القَوِيَّ لِمَلاَئِكَةٍ تُوْلَدُ مِنْ صُلْبِهِ
وتَبْحَثُ قَلِقَةً عَنْ أَقْدَارٍ صَنَعَهَا بِيَدَيْه
تَقْتَنِصُ الأَرْوَاحَ وَهِيَ تَحْيَا جَمَالاً لَمْ تُدْرِكْهُ فِي حِيْنِهَا،
إذْ يَسِيْرُ الجَّمَالُ أَمَامَ الرُّوْح،
ولا تُدْرِكُهُ إلا بَعْدَ خُرُوجِ الحُروبِ مِن عَيْنيْهِ الغَائِرَتَينِ فِي الأَبَدْ
تَنَامُ ميِّتةً _بَعْدَ أنْ حَدَثَت_ تَحْتَ حِمَايةِ ظلِّهَا
ودُمُوعٌ تَتَدَحْرَجُ فِي لحَظَاتِ الغَضَب).
تلك كانت، إذن، بعضاً من سيرة الوجع، وغناء الحياة/البنات! فَتَحَت العيون أفقاً يضيء عتمات الجسد، والزمن الموات! أرجوكم: أتركوا البحر في عزلته؛ البحر الذي يتبدد كل يوم على الرمل، ودم الصبيات البات ينثرُ زهوراً ملونةً على قمصانكم وطاولات الوظيفة! أوصيكم: لا تتهموا الشاعر بالإبتذال! افهموا براءة الموج، افهموا فوضاه وحزنه المائي، وأمواجه التي تغسل ملوحة المدينة، وتُبَدّلها بالأشجار والريحان، حتى يرى «الجمال الذي يسير أمام الروح» في حديقة الرمان. وأنت، أيتها المدينة؛ يا قلباً من الزجاج والبراءات والشوك واللافتات، ياوتراً يرقش ليلهن البنات؛ لا تتآمري على الشاعر، لا تؤاخذي شعره المحدث، ودعي البحر ينفتح على المرايا، حيث الشاعر يجلس حالماً على الرمل؛ يحلمُ بالتفاحات والسوسنة، تلك التي في قلبه حاضرة.. حاضرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.