قرأت ما كتبه الأستاذ مصطفى أبو العزائم عن ما أسماه (ذهبية) أحمد محمد الحسن، وهو مقال جدير بالتعليق، ليس لأن كاتبه هو رئيس التحرير، ولا لأنه عن صحافي فريد من نوعه، ولكن لأن كلمة( ذهبية) ارتبطت هذه الأيام بالتلفزيون، ففسرت تخلف مصطفى عن ذلك الجمع الباذخ من نجوم المجتمع، ومقدمى البرامج أنها حيلة منه ليكتب معتذراً عن غيابه الذى ما توقعه أحد، ثم يستطرد على طريقة الأستاذ أنيس منصور فيكتب(على راحته) عن برامجه وسهراته وتضحياته. نشهد لأبى العزائم الابن بتضحياته، والحمد لله أنها جاءت (مخلوفة) كما هى السلوى على لسان المحتسبين الموقنين أمام الشدائد، وكما تمناها له ولأسرته من أزعجهم الحادث، حيث وقع وهو بعيد يتجول بالكاميرا فى أصقاع البلاد وربوعها. إن ذهبية التلفزيون إنما جاءت لتحفظ للمبدعين إبداعاتهم وتضحياتهم. الشىء المشترك فى كل الذهبيات، هو أنها لا تقف عند حدود الذكريات التى هى صادقة وجميلة، وإنما تثير الشجون أيضاً والدموع كما رأينا وأكبرنا.. إن أمير الشعرانى محرر(آخر لحظة) الذى غطى دموع الملتقي، أقصد فعالياته، يفضح الذكاء الكامن خلف دموع المبدع فيقول: إن فلاناً هذا النجم الساطع (نفسه كاد الدمع أن يفضحه ويتسلل من عينيه الذكيتين).. والحقيقة إن ذهبية التلفزيون جعلت مشاعر الأذكياء ممن احتشدوا فى استديو(على شمو) حالة إنسانية مرهفة، أشبه بشجون الغربة التى تبارى فى تصويرها الشعراء الأذكياء أيضاً. لقد وضح أن الإغتراب داخل الوطن يفعلها أيضاً، الغربة عن مكان أحببناه ومنحناه أغلى أيام العمر، أو هكذا كانت تبدو مشاعر من عرفهم الناس من خلال شاشة تلفزيون السودان، الذى يتهيأ للاحتفال بعيده الذهبى.. الغربة أياً كانت هى قاسية داخل الوطن أوخارجه، وهى قطعاً أشد قسوة لمن كتبت عليه الإثنتان معاً.. وهذا ما يجعلنى أرجىء التعليق على ذهبية(أستاذى) أحمد محمد الحسن، وأقفز مباشرة لرسالتين تنضحان بشجون الغربة ثنائية الفعل، رسالة المغترب الدكتور صلاح محى الدين العميد الأسيق لكلية الإعلام بجامعة أم درمان الإسلامية، ورسالة الدكتور معز عمر بخيت ذائع الصيت. الدكتور صلاح محى الدين صاحب كتاب(مهر الدم) وأحد حملة مشاعل التنوير فى البلاد، وصنو صلاح أحمد ابراهيم، ومحمد المهدى المجذوب وعبد الله حامد الأمين، وعوض مالك، وتلك الكوكبة من الأدباء الذين كان فى مقدور حسن أحمد التوم وحده أن يجمع شملهم فى مجلة الشباب والرياضة عليهم جميعاً رحمة الله. لأكثر من خمسة عشرة عاماً اختفى صلاح من البلاد وانقطعت سيرته، التي ظلت نضرة بحكم اتصاله الفاعل بقضايا البلاد، وهموم الاصلاح، وشئوون الإعلام والصحافة.. أخيراً وعلى أيام الانتخابات طالعتنا الصحف باسمه متحدثاً فى ندوة نظمها المغتربون بالرياض، فأرسلت رسالة عبر الإيميل للجهة المنظمة وقد نشر عنوانها فى إحدى الصحف، كانت المفاجأة المحزنة انه يسألني عن أخبار صديقه وصديقي حسن أحمد التوم.. إن سبع سنوات انقضت على وفاة حسن وهو لا يعلم، تحولت من حالة الفرح بلقائه بعد كل هذه السنين الى ناقل لخبر وفاة إنسان عزيز.. انتهت المكالمة فى الحال، وفيما بعد اتضح أنها أمراض الكبر، وهجرة الشيخوخة المعاندة للواقع، المتطلعة للإلتزام بدور الشباب فى كل حين، فقلد استغرقته طموحات منظمة الشباب الإسلامي العالمي، فحجبت عنه طريقته فى الاستغراق فى المشاغل، حتى أخبار الأحباب، فلا يسمع حتى برحيلهم، وللشجون بقية أكثر حدة لا داعى للمضي فيها، آملاً أن يعود الدكتور صلاح لوطنه الذي أحبه، ونظم فى شأنه أبلغ الكلام وأعمق الفكر.. أخيراً كتب ينعى صديقه بمقال بليغ نشرته (الراي العام) كأنه يزكى إقتراحي للطاهرحسن التوم، وقد واصل رسالة أبيه ناشراً لا يشق له غبار، بأن يصدر كتاباً عن(نموذج «حسن» فى العمل العام). أما رسالة دكتور معز فقد جاءت مشحونة بدرجات أخرى من أشجان الغربة، حزمة مشاعر إنسانية تتسربل بشفافية وألق مما عرفنا فى أشعاره واكتشافاته العلمية العالمية. نشرها بصحيفة(الأهرام اليوم) بعنوان:(لا أميل الى استرجاعه لأنه حمل فيه على نفسه فوق ما تحتمل نفسه الشفافة) أنه يتحدث بلغة شاعرة مرهفة عن تلفزيون بلده بمناسبة بدء التحضير لعيده الذهبى، والدعوة اليه فى مهجره قد ذهبت. إنه يعتذر بشدة عن مقال سابق انتقد فيه التلفزيون، لغة الاعتذار دليل تحضر، ونقد التلفزيون حق مشروع للكافة، خاصة لو صدر من مبدع بقيت مشاركاته فى أذهان الناس كالبصمة، فهو صاحب سهرة انفردت بخصائصها، وكم تمنى الناس لو أنها استمرت، لكنها الغربة كم سلبت وكم. الإعتذار جاء بلهجة الشاعر المبدع والطبيب الإنسان، والمهنى الغيور.. بإمكاني أن أمضي فى هذا دون حرج، فهو من تلاميذي بمدرسة الخرطوم بحرى الأميرية، التى تخرج فيها الأفذاذ، لم استبعد النجاحات التى حققها د. معز عالمياً وفى مجالات الآداب والفنون والطب، فقد شهدت بداياته الأولى داخل الفصل وخارجه، وآمل أن يكون لي فضل فى بعضها، فالمدرسة على عهد مديرها الغيور الحازم الأستاذ أحمد عباس عليه رحمة الله، ومن زاملتهم من المعلمين، كانت مثالاً للتربية المتكاملة(الجمعيات والمنازل، يوم الآباء، الهوايات، المكتبة، المسرح والصحافة الحائطية)، ولا ننسى تأثير الوالدين وهذه هى البيئة التى عشناها. يهمني أن أقول لمعز إن من المناهج التى أرساها التلفزيون كأساس لهذه الإحتفالية السعي لكل من تعاونوا بسطاً لروح التواصل، كما فعلت أنت فذلك يساعد على التخطيط للمستقبل المنشود فضائياً وما أروعه، نشطت الأواصر وجاءت الاستجابة بلا نظير والاحتفالية ما فتئت (أمشاج) تتشكل لتشمل كل الفئات وكل المبدعين. ومن قبل المشاهد، هذا الكائن الخلوق الذى استمد منه التلفزيون وجوده وبقاءه وتطوره، لقد أنشىء موقع الكتروني خاص للتفاعل معه والوقوف على رأيه فيما كان وما سيكون بإذن الله.