قرأت في جريدة الانتباهة, الصادرة يوم الخميس, مانشيتاً يقول «إسرائيل تقيم جسراً جوياً لدعم دولة جنوب السودان» مثل هذا المانشيت, يؤكد أن القائمين على أمر الجريدة تغيب عنهم الأسس المنطقية لكيفية صناعة الرأي العام, مما يؤكد أن الجريدة تجري وراء الإثارة, بهدف زيادة مبيعاتها, ولكنها بعد قليل سوف تخسر قراءها. ولا أريد أن أتحدث عن العلاقة بين إسرائيل وجنوب السودان, باعتبار أن الزيارات المتبادلة بين المسؤولين في كلا البلدين توضح متانة العلاقة, كما إن علم إسرائيل الذي كان مرفوعاً في احتفالات الانفصال يؤكد ذلك, وهي كلها ردود فعل لموقف بعض النخب من السودان, واعتقادهم أن مثل هذا السلوك سوف يشكل إغاظة للشماليين, وهي تستخدم في هذا الإطار, بعيداً عن النظر لمستقبل العلاقة بين الدولتين الجارتين ومصالح شعبيهما. قبل الانفصال, كانت هناك علاقة بين الحركات المتمردة وإسرائيل, وجاء ذلك في كتاب الفريق جوزيف لاقو «مذكرات الفريق جوزيف لاقو» ثم في تصريحات مدير جهاز الموساد السابق «عاموس يادلين» التي قالها في حفل تسليمه مهام منصبه لخلفه الجنرال «أفيف كوخفي» وقبل ذلك كان وزير الأمن الإسرائيلي «أفي ديختر» قال في محاضرة نشرتها الصحف الإسرائيلية, إن رؤية إسرائيل للسودان, كانت منذ الوهلة الأولى, أن لا يصبح قوة مضافة للعالم العربي, لذلك كانت إسرائيل تتجه دوماً إلى السودان, وخلق الأزمات فيه, لعدم خلق دولة متجانسة, وبالتالي أصبح موقف إسرائيل من السودان واضحا. وكانت الحكومات السودانية عندما تحاول أن تثير هذه العلاقة, كانت تحاول أن تمنع تلك الحركات من بناء علاقات مع الدول العربية, وخلق رأي عام في المنطقة لعدم التعاطف مع تلك الحركات, وبالتالي عدم التعامل معها, وفي نفس الوقت أن يكون هناك رأياً عاماً مضادا, لتلك الحركات داخليا, لأن الحركات تعتبر جزءاً من السودان, وموقفها يتعارض مع مواقف السودان, خاصة في العلاقة مع إسرائيل, فكانت الإستراتيجية واضحة ومعروفة, كما كان الرأي العام في المنطقة يساعد على ذلك, واستطاعت إسرائيل أن تخترق العديد من الدول العربية وتقيم معها علاقات بطريق مباشر أو غير مباشر. وجريدة «الانتباهة» ما تزال تقف في محطة تاريخية, وهذا لا يعني تجاهل مخططات إسرائيل, ولكن البحث عن الطرق التي لا تجعلها تحقق مشروعها في السودان. بعد 11 يوليو عام 2011م, أصبحت جنوب السودان دولة كاملة العضوية في الأممالمتحدة, ولها علاقتها الإقليمية والدولية, وبالتالي قضية إقامة علاقة بين دولة جنوب السودان وإسرائيل ليست تهمة, والدولة الوليدة هي مسؤولة أمام شعبها عن سياستها الخارجية, وليس أمام شعب السودان, ولا أعتقد أن إثارة العلاقة للرأي العام الداخلي السوداني, وفي ظل الظروف الحرجة التي يمر بها سوف تؤثر كثيرا, إلا إذا كانت جريدة «الانتباهة» هي من المؤسسات التي تعمل من أجل تقوية العلاقة بين دولة جنوب السودان وإسرائيل, وهي فعلاً بمثل هذا المانشيت تعمل من أجل ذلك, إذا كان بوعي أو دون وعي, لأن استمرار الحرب بين الدولتين سوف يقوي العلاقة بين إسرائيل ودولة جنوب السودان, كما إن إسرائيل لتكملة مشروعها الذي صرح به وزير أمنها السابق «أفي ديختر» تحتاج لأزمات متواصلة إن كانت داخل السودان أو مع جيرانه, لكي يحقق المشروع أهدافه, والتي تتطلب تواصل أزمات السودان, وسوء علاقات في محيطه لكي تستطيع إسرائيل أن تغذي تلك الأزمات. كما إن جريدة «الانتباهة» تشجع العديد من حالات الهروب في مواجهة الأزمات وأسبابها الحقيقة, والبحث عن شماعة لكي تعلق فيها تلك الإخفاقات, وهي التي تجعل الأزمات تتوالد من بعضها البعض. وتحاول جريدة «الانتباهة» أن تصطاد في تلك المياه العكرة. وإذا كانت جريدة «الانتباهة» تحاول أن تصنع رأياً عاماً في المحيط سواءً أكان العربي أو الأفريقي, أعتقد أن أغلبية الدول الأفريقية لها علاقات مع إسرائيل, خاصة التي كانت تجاور السودان, والتي تجاوره الآن, ولم تثار تلك القضية لأن علاقة السودان مع تلك الدول جيدة, وبالتالي لم تصعد علاقة تلك الدول مع إسرائيل إلى واجهة الانتباهة, وهذا يؤكد أن العلاقة الجيدة مع الجيران تمنع إسرائيل من أن تتخذ تلك العلاقة سلماً لتحقيق مشروعها في السودان, وإذا أردنا أن نجهض المشروع الإسرائيلي في تحقيق أهدافه في السودان, يجب علينا أن نمنع إسرائيل في استغلال علاقتها مع دولة جنوب السودان لمصلحة مشروعها, وعلينا أيضاً البحث عن حل لمشاكلنا مع تلك الدولة, وليس تأزيمها, وقطع العلاقات كما تريد جريدة «الانتباهة», وأن مانشيتها يسير في نفس الاتجاه, وهو لم يضف شيئاً لما هو معلوم, وإذا كانت «الانتباهة» تعمل برؤية إستراتيجية فعلاً لتحقيق السلام والاستقرار السياسي في السودان, لكانت امتنعت عن الإثارة بمانشيتات بهدف تعميق الأزمة وليس حلها, وهي تعلم أن دول الجوار العربية والأفريقية, تعلم حدود العلاقة بين إسرائيل ودولة جنوب السودان من خلال مؤسساتها الاستخباراتية وهي ليست في حاجة لمعلومات من جريدة «الانتباهة». تأتي خطورة منهج جريدة «الانتباهة», خاصة في العمل على خلط الأوراق الإستراتيجية, أن الجريدة لا تعمل بمعزل عن بعض صناع القرار, إنما هي تجد بعض الدعم, من بعض المؤسسات الحاكمة, ومن بعض القيادات النافذة في الحزب الحاكم وفي الدولة, وبالتالي يصبح منهجها يؤثر في صناعة القرار في النظام الحاكم, الأمر الذي يجعل الجريدة تكتسب مساحة واسعة في صناعة الأحداث, من خلال رؤيتها وتحليلها للواقع السياسي بما هو متوفر لها من معلومات أو معلومات تصنعها ربما من الخيال على ما هو متصور أن يكون, وعلاقة هذا الواقع بالعلاقات الإقليمية خاصة دولة جنوب السودان. هذا التأثير على صناع القرار هو الذي جعل للصحيفة هذه المكانة من الاهتمام, وهذا يعود للصراع الكامن داخل الحزب الحاكم ومصالح كل مجموعة, حيث هناك مجموعات تستفيد من بيئة التوتر, إن كانت مع القوى السياسية المعارضة, أو مع الخارج ممثلاً في دولة جنوب السودان, والأخيرة نفسها تملك ذات تيار «الانتباهة», الذي يرفض بناء علاقة أخوية مع السودان, وهو تيار داخل بنية السلطة الحاكم, وله تأثيره المباشر في صناعة القرار في الجنوب, وكل ما تصبح الدولتان في تقارب لإنهاء الخلافات بينهما, تظهر أزمة جديدة مفتعلة, تهدف إلى وقف مجهود التصالح بين الدولتين. والغريب أن التيارين في السودان ودولة جنوب السودان تأثيرهم أقوى من التيارات الأخرى, الراغبة في تشييد علاقات متميزة بين البلدين, وذلك كما أشرت راجع لتأثيرهم المباشر على صناع القرار في الدولتين. نأتي إلى ما تقدم، كيف تخلط جريدة «الانتباهة» الأوراق الإستراتيجية للدولة؟ إن مانشيت الجريدة بقيام جسر جوي بين جوبا وتل أبيب, إذا كان حدث مثل هذا من أين يمر هذا الجسر, طبعاً عبر البحر الأحمر, والدول التي تستطيع من خلال الأجهزة المتطورة التي تمتلكها اكتشاف الجسر هي مصر أو المملكة العربية السعودية, وأعتقد أن تلك الدول ليست لديها علاقة قوية أو رباط مع جريدة «الانتباهة», أو تلك الدول الكبرى التي تمتلك أقماراً اصطناعية, وهي أيضاً ليست لها علاقة مع جريدة «الانتباهة», وإذا كان هناك اختراق استخباراتي لدولة الجنوب ووصل إلى تلك المعلومة, إذن كيف وصلت إلى جريدة «الانتباهة»؟ كلها أسئلة أي إجابة عليها تورط جريدة «الانتباهة». وإذا كانت هناك جهات لديها مثل هذه المعلومة في السودان, هما فقط القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات, ولا أعتقد أن المؤسستين تعطيان المعلومة لجريدة الانتباهة, ولا تعطيها لبقية الصحف الأخرى, ومثل هذه المعلومة لو كان هناك ضرورة لنشرها, لا تجد قوتها إلا في صحيفة القوات المسلحة, ولكن أن تنفرد جريدة «الانتباهة» بمثل هذه المعلومة, تعد عملية في خلط الأوراق ويهزم مصداقية الجريدة, وفي نفس الوقت لا أعتقد أن علاقة إسرائيل بدولة جنوب السودان ومهما كانت متانتها، وبعد ما أصبحت دولة تتخير هي علاقتها, أن تصنع تلك العلاقة مواقف مضادة لحكومة الجنوب, ولا تزيد سوء العلاقة على ما هي عليه الآن, الأمر الذي يجعل انعكاساتها سلبياً على المواطن السوداني. نسأل الله أن يخفف وطأة سياسة جريدة «الانتباهة» على أهل السودان وعلى الله التوفيق.