«الأحداث تعيد نشر هذا المقال نسبة للأخطاء الواردة في النشر السابق» هذا افتراض يمكن تلخيصه على النحو التالي: انتفاضة 6 أبريل 85 التي أطاحت بسلطة مايو 69 كانت – بالأساس - ناتج فك تحالفها مع الإسلاميين قبل ذلك بشهر واحد (9 مارس 85) وليس ناتج التحرك الانتفاضي نفسه لأنهم كانوا مؤهلين تماماً لإفشاله، إضراباً سياسياً كان أو مظاهرات، لو بقي التحالف قائما. بهذا المعنى السلبي، ولكن الحاسم، الإسلاميون هم صناع الانتفاضة الحقيقيون، وكما ثبت بعد ذلك في يونيو 89، شكلت خطوتهم الأخيرة لاستلام سلطة مايو كاملة وتأسيس أكثر الحقب شمولية وأطولها عمراً في تاريخ السودان المعاصر. هذا افتراض جدير بالتأمل والتمحيص الجديين من قبل معارضي نظام الإنقاذ سلماً كان أو حرباً، لأنه، إذا صح، يرتب تغييرات أساسية تصحيحية في إستراتيجيتهم، وفق ادِّعاء هذا المقال. ليس في طرح هذا الافتراض أدنى تبخيس للجهود والتضحيات، الكبرى منها والصغرى ضد الحقبة المايوية. المجازر ضد الأنصار ثم الشيوعيين ثم مجموع القوى الوطنية عام 76، والنضالات السرية والعلنية، كلها ساهمت بشكل من الأشكال في توليد المجموعات المنظمة وغير المنظمة، الحزبية وغير الحزبية التي تولت عملية التعبئة والتنظيم والتنفيذ للإضراب السياسي والمظاهرات ولكنها لم تكن من القوة بما يمكنها من توجيه الضربة القاضية لسلطة الدكتاتورية المايوية ومن باب أولى الحلول مكانها. القوة كانت تتراكم لدى المعسكر النقيض. فتطورات الأوضاع السودانية وغير السودانية، كما سيوضح لاحقا، كانت قد أطلقت منذ منتصف السبعينيات تقريباً موجة هجرة جماعية كاسحة نحو الدين تغذي منها الإسلام السياسي في نمو سريع متحالفاً مع السلطة المايوية حتى بات القوة الرئيسية وسط النخب المدينية مزيحاً اليسار من هذا الموقع. وقد سجلت انتخابات ما بعد الانتفاضة هذه الواقعة التاريخية؛ حيث بلغت نسبة أصوات الجبهة القومية الإسلاميه (18.5%) مقابل (1.7%) للحزب الشيوعي. انعكاسات هذا النمو فيما يتعلق بالانتفاضة نفسها كانت عديدة الشواهد، أبرزها أن المراكز النقابية المهنية والعمالية الرئيسية، الأدوات الفاعلة في الانتفاضات، كانت في مدارات غير بعيدة عن الإسلاميين في حين لم يعرف لهم قبل ذلك أي نفوذ فيها. نقيب الأطباء عشية الانتفاضة كان د. الجزولي دفع الله وهو إسلامي سابق استعاد صلته بأجوائهم بعد أن أصبح رئيساً للوزراء. نقيب المحامين كان مولانا ميرغني النصري، استنكف زملاؤه عن ترشيحه لوزارة عدل الانتفاضة بسبب عدم الاطمئنان لموقفه تجاه قوانين الشريعة، بينما نقابة عمال السكك الحديدية، العمود الفقري للحركة النقابية العمالية، كانت بعيدة عن التنسيق مع مجموعات النقابيين المهنيين الذين تصدوا لمهمات الانتفاضة. أما الأكثر دلالة في هذا الصدد فهو أن الإسلاميين بمجرد استفاقتهم من الضربة التي وجهها لهم نميري تمكنوا بسهولة فائقة من اختراق كافة مؤسسات الانتفاضة ممثلة في المجلس العسكري الانتقالي والوزراء والأجهزة الأمنية المدنية (نائب مدير جهاز الأمن) والعسكرية (نائب مدير المخابرات العسكرية ومدير مكتب القائد العام للجيش)، ثم برلمانها حيث حققت الجبهة القومية الإسلامية ما يشبه الاكتساح في الانتخابات التي جرت عام 86 قافزة الى المركز الثالث بعد الحزبين الانتخابيين تقليدياً، الأمة والاتحادي الديموقراطي بنسبة أصوات بلغت 18% و38% للاول و29.5% للثاني. حتى خسارة د. الترابي في دائرة الصحافة - جبرة كانت، حسب التعبير الكروي، هزيمة بطعم الانتصار إذ لم يقتصر الأمر علي تحالف كافة القوى الأخرى لتحقيق هذا الهدف وإنما تجاوز ذلك الى أن الفرق لم يتعد الألفي صوت (12 الى 10 الف). هذه مسوغات الافتراض الذي يطرحه المقال بأن انتفاضة 6 أبريل 85 كانت صناعة إسلاميين بامتياز، أقرب ما تكون في الواقع إلى بروفة لانقلاب يونيو 89. وبما ان انتصارهم هذا لم يكن ناتج عصا سحرية أو ذكاء استثنائي أو مؤامرة دبرت بليل فإن في استقصاء أسبابه الحقيقية تفكيكاً للعقبات المستعصية التي تعترض طريق المعارضة الحالية نحو إنجاز انتفاضتها إزاء النظام الراهن عبوراً الى ديموقراطية مستدامة تضع حداً نهائياً لظاهرة الانقلابات بعكس ما حدث بعد اكتوبر 64. فمن البديهي أن الفشل في هذه المهمة حتى الآن عائد الى القصور في تشخيص تلك الأسباب. التفسير الاستقصائي المقترح هنا باختصار، وسبق لكاتب المقال أن شرحه تفصيلاً في مناسبات سابقة، يتمحور حول الالتقاء بين ظروف موضوعية عامة وأخرى ذاتية خاصة بالبديل والمنافس اليساري العلماني للحركة الإسلامية، هيأ لها فرصة ولادة ثانية. الصيغة الإخوانية السودانية للحركة كانت قد بقيت خامدة منذ تأسيسها في الأربعينات الى أن تجلى أثر العيب التكويني للأنظمة العلمانية بصورة صاعقة ممثلاً في هزيمة نموذجهاً الأشهر وهو النظام الناصري عام 67، متزامناً مع تزايد وزن النموذج السعودي – الخليجي الإسلامي إثر تدفق البترو دولار بعد حرب 73. في الوقت عينه تعذر على النظائر العلمانية اليسارية اللاسلطوية تنقية ميراثها الآيديولوجي من ذلك العيب المتمثل في اللاديموقراطية المكتسبة فكرياً والموروثة عن ظروف نشأتها، حيث الديموقراطية بضاعة بورجوازية رأسمالية بالرغم من الدور التحديثي التاريخي لهذه النظائر ولاسيما الحركة الشيوعية. هذه الحركة بالذات تحملت العبء الأكبر في نشر الوعي بالحقوق الطبقية الشعبية والحريات العامة وفي ابتدار العلاقة بين الفكر والسياسة وأساليب التنظيم المديني اللاقبلي واللاإثني سياسياً ونقابيا، متسيدة الساحة النخبوية بجدارة خلال الخمسينات والستينيات. ولكن فيما يتعلق بموضوع الديموقراطية بقيت الحركة مترددة ، في أحسن الأحوال، كما يبدو مثلاً في حديث لآخر الراحلين من الشيوعيين الكبار محمد إبراهيم نقد لمجلة النهج اللبنانية في فترة ما بعد الانتفاضة، يتراوح بين القبول بالديموقراطية الليبرالية والتشكيك في قيمتها (كتاب قضايا الديموقراطية في السودان). بذلك فإن الاخطر والأبعد أثراً في علاقة المكون الشمولي لهذا المصدر الناصري - اليساري بتاريخ تطور التيارات الإسلامية هو ما يمكن تشبيهه بحرث تربة العقل العام للتجاوب مع شموليتها الأخطر من شمولية اليسار بمراحل كونها مركوزة في المقدسات الدينية. فالسيطرة على عقل النخب القيادية هي طريق السيطرة على المجتمع والدولة. هذا المصدر الذاتي ليقظة الحركة الإسلامية ترافق مع إفرازات مصدر موضوعي هو الذي حول اليقظة الى ازدهار استمر حتى إصابتها لعنة السلطة الرسمية الاحتكارية. هذا المصدر هو التدهور المريع للأوضاع المعيشية والاقتصادية خلال الحقبة المايوية حتى بلغ حد المجاعة في دار فور أوائل الثمانينات متفاقماً باندلاع الحرب في الجنوب خلال نفس الفترة تقريبا. ففي سبتمبر عام 1979م لخص وزير مالية النظام المايوي الوضع الاقتصادي في انخفاض الناتج القومي بنسبة النصف خلال أعوام النظام العشرة حتى ذلك الحين، واضطر نميري نفسه الاعتراف بذلك في نوفمبر 1981م بعد ان اصبحت حقائق الوضع الاقتصادي مكابدة معيشية يومية قاسية لأغلبية الناس الساحقة يستحيل مغالطتها، ملقياً اللوم على التضخم العالمي وسياسة دعم السلع. تفاعل عاملي جاذبية الدين كملجأ من ضغوط الحياة الجبالية وانحسار مساحة الوعي الديموقراطي في العقل العام شكل بيئة مثالية لنهوض إسلامي سياسي عارم كانت نتيجته الطبيعية انتصاره (بالسلب) في ابريل 85 واتباع ذلك بالاستيلاء على سلطة الدولة كاملة والتمكن فيها. اذا قبلنا صحة الافتراض الذي يطرحه المقال بناء على هذا العرض لمسوغاته واسبابها يبقى من الصحيح والمنطقي القول إنه يستحيل على أي معارضة جدية مستقبلية الأفق أن تفصل بين إسقاط النظام وإسقاط الأسباب الحقيقية وراء قيامه. هذه مهمة معقدة تتطلب معالجة مركبة لا تعطي الأولوية لهدف الإسقاط وفق تصور يؤجل البدء بتصفية الأسباب، لذلك فهي تتطلب عقلاً مبدعاً خلاقاً وشخصية تملك من الشجاعة المعنوية ما يمكنها من مخالفة المألوف من تقاليد المعارضة السودانية الاحادية الجانب، بدأ من الاعتراف بأن أبريل 85 كان انتصاراً للإسلاميين بمعنى هام وأساسي.