قد يلفت نظر المتابع لدور الإعلام السوداني, في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة. فدوره يقوم على ردة الفعل للأحداث, الأمر الذي يجعله عاكساً للأحداث فقط, وهذه الحالة لا تؤهله أن يخلق إستراتيجية لها أهداف يصبو إلى تحقيقها, بقدر ما يحاول أن يتعقب أثر صانع القرار في الدولة, مما يقلل فرص المبادرة في العمل الإعلامي التي تكون في بعض الحالات بمثابة موجة لصناع القرار, ولكي لا نسرح بين ظلال الأحداث المتدفقة كشلال, نأخذ قضية الصراع بين السودان ودولة جنوب السودان نموذجا, خاصة بعد احتلال منطقة «هجليج», وفي مثل هذه القضية, كان من المفترض أن يتابع الإعلام التصريحات التي تخرج من قيادات دولة جنوب السودان والحركة الشعبية, وفي الهجوم الأول على منطقة هجليج, ثم الهجوم الأخير الذي احتلت بموجبه الحركة الشعبية منطقة هجليج, ومتابعة التصريحات وتحليل مضامينها يبين الهدف الأساسي من وراء الهجوم, ومعرفة إستراتيجية دولة جنوب السودان, وبموجبه تحليل المضمون تصنع إستراتيجية التصدي لها إعلاميا, بالتنسيق الكامل مع وزارة الخارجية السودانية, والقوى السياسية في الدولة ثم تأتي مسؤولية وحدة الجبهة الداخلية وفقاً لتلك الإستراتيجية. في الهجوم الأول لمنطقة هجليج, صرح الرئيس سلفاكير عقب الهجوم, في الكلمة التي ألقاها في اجتماع مجلس التحرير للحركة الشعبية بالآتي: (إن قواتنا احتلت منطقة هجليج, وهي منطقة جزء من دولة جنوب السودان). هذا التصريح الذي خرج أولا, ثم أعقبه تصريح لوزير الإعلام: (إن بلاده هاجمت منطقة هجليج, لأن القوات المسلحة السودانية تقصف عدداً من المدن الجنوبية, بالطائرات والمدفعية). إذا حللنا ما قاله الرئيس سلفاكير, يتبين لنا أن الهجوم على منطقة هجليج لم يكن من تخطيط الرئيس سلفاكير, وهناك جهات كانت من وراء الهجوم, باعتبار أنه إذا كان من تخطيطه كان سينتظر نتائج الهجوم وآخر معلومات عن العملية, وبعد ما يطمئن على نجاح الاحتلال يصرح, ولكن الرجل ملك معلومة على عجل, ثم أردفها بأن هجليج تعتبر جزءاً من أرض دولة الجنوب, وهذا يؤكد أن الهدف من العملية, أن تكون أداة ضغط ومساومة بهدف تحقيق شروط دولة الجنوب في التفاوض. ثم جاءت تصريحات وزير الإعلام لكي تصحح ما قاله الرئيس سلفاكير وتغطي على هدف الإستراتيجية. قبل العملية الأخيرة بفترة قليلة جدا, خرج تصريحان الأول من السيد ياسر عرمان, نشر في جريدة «الشرق الأوسط» وعدد من المواقع السودانية, قال السيد ياسر عرمان «إنهم على اتصال مع القوى السياسية المعارضة في الداخل, وإن هؤلاء سوف يكونوا تنظيماً داخلياً مثل تنظيم الحركة الثورية, ويكون داعماً لهم. وبعد أيام قليلة أجرت نفس الجريدة «الشرق الأوسط» لقاء صحفياً مع السيد مالك عقار في الأول من أبريل 2012م قال فيه: «إن قواته تملك زمام المبادرة في الحرب الدائرة في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان, وإنها أصبحت بالقرب من عاصمتي الولايتين» ونفى دعم دولة جنوب السودان للجبهة الثورية, أو الحركة الشعبية. نجد في التصريحين أن هناك تنسيقاً كاملاً, الهدف من التصريح الأول, هو خلق بلبلة في الجبهة الداخلية ودق اسفين بين الحكومة والمعارضة, باعتبار أن هناك تنسيقاً يتم من الخلف, وفي ذات الوقت يخلق بلبلة وتشكيكاً بين قوى المعارضة نفسها, والتصريح الثاني الهدف منه لفت أنظار القوات المسلحة وجهاز الأمن والمخابرات. إن الجبهة الثورية تخطط لهجوم كبير في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان, بالتالي نقل الأنظار عن منطقة هجليج، وليس هناك أداة تحليلية للمضمون في الرسالتين. ووقع الدكتور حاج آدم يوسف في الفخ, في مهاجمته لقوى المعارضة, واتهمها بأنها تريد أن تخلق بلبلة, حيث قال نائب رئيس الجمهورية الدكتور الحاج آدم يوسف بعد اجتماع للقطاع السياسي للحزب الحاكم (إن هناك توجيهات قد صدرت من قبل بعض قيادات القوى السياسية المعارضة, لعضويتها بالذهاب والاصطفاف في محطات البترول, لكي تخلق الهلع والإيحاء بأن هناك أزمة). وقال الدكتور آدم: (نقول لهؤلاء اصطفوا كما شئتم, ومتى ما جئتم ستجدون بنزين وجازولين وغاز, ونخشى أن تحرق بيوتهم, ويندم هؤلاء على ما جنوه على أنفسهم). هذا ما كانت تريده الحركة الشعبية, أن تنقل الصراع في الداخل لكي يتسنى لها أن تنتقل لمربع آخر قضية المساومة في التفاوض. فإذا كانت أجهزة الإعلام تقوم بالتعاون مع عدد من المؤسسات بمتابعة التصريحات, التي تخرج من دولة الجنوب والذين يدورون في فلكها, كانت قد استطاعت أن تكشف مغزى الرسائل وتضع تحوطاتها, وتستطيع أن تعمل على خلق الأرضية المناسبة لوحدة الجبهة الداخلية ثم تنتقل إلى الحرب النفسية للعدو وجعله - رغم احتلاله للمنطقة - في حالة من الهلع والخوف من المستقبل ثم تنتقل للتشكيك في نجاح المخطط برمته. كان الهدف الأول لدولة جنوب السودان التشكيك في سودانية المنطقة, على الرغم من علمها بقرار المحكمة الدولية, ولكنها ساعية من أجل أن تكسب أداة ضغط في التفاوض, ولذلك تريد أن تضع القائمين على التفاوض في موقف دفاع, وكادت أن تحقق ما تريده بعد أن حاولت بعض القيادات أن تذهب في جدل تريده الحركة, في التشكيك في سودانية المنطقة, ووضع القيادات في موقف دفاع وتبرير, رغم أن التصريحات العالمية التي خرجت كانت تؤكد على سودانية المنطقة, جاء ذلك في تصريح وزير الإعلام ووزير الدولة للإعلام حيث قال السيد عبد الله مسار وزير الإعلام السوداني في مؤتمر صحفي (إن هجليج سودانية 100% وأنه لا يمكن المساومة بشأنها إذ إنها ليست من المناطق الأربع المتنازع عليها). وقالت وزيرة الدولة للإعلام سناء حمد (إن أبيي شمالية وستظل شمالية, وجددت رفض الحكومة لبعض المساومات). هذا الجدل حول سودانية هجليج, هو الذي تسعى إليه دولة الجنوب لكي يؤدي في النهاية للمساومة, ولا أعرف الأسباب التي جعلت وزيرة الدولة تتحدث عن منطقة أبيي في هذا الصراع, الذي نجحت الدبلوماسية السودانية في إدارته, وخرجت تصريحات من دول عديدة ومن مجلس الأمن الذي طالب في قراره دولة جنوب السودان بالانسحاب الفوري من منطقة هجليج». كان يجب أن لا يتم حديث عن أي منطقة أخرى, أو حوار حول سودانية المنطقة, لأن كل القرارات العالمية التي خرجت أكدت على سودانية المنطقة, وكان من المفترض أن يتم الانتقال إلى مرحلة أخرى بالنسبة لرجال الإعلام السوداني في إظهار وحدة الجبهة الداخلية, والقيام بالحرب النفسية على دولة الجنوب, لكي يتم عزل القيادة من القاعدة. أجرت إذاعة «البي بي سي» حواراً مع مدير مكتب الحركة الشعبية في لندن, وفتح الرحمن النحاس رئيس تحرير إحدى الصحف السودانية, وقبل الحوار قدمت الإذاعة تقريراً حول منطقة هجليج, وجاء في التقرير: «منطقة هجليج المتنازع عليها بين البلدين» وهذا غير صحيح, حيث أكد مسؤول الحركة في الحوار إن منطقة هجليج تعد جزءاً من أبيي, وتابعة لمنطقة أعالي النيل في دولة جنوب السودان, كنت متوقعاً أن يصحح السيد فتح الرحمن النحاس التقرير, من خلال كل القرارات التي خرجت من مجلس الأمن, والاتحاد الأفريقي, وتصريحات العديد من الناطقين باسم وزارات الخارجية في دولهم, وعلى رأسهم الناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الأمريكية, والتي طالبت دولة جنوب السودان بسحب قواتها من المنطقة, ثم بعد ذلك أن يجاوب على الأسئلة التي طرحت عليه, لأن دولة الجنوب في إستراتيجيتها تريد أن تشكك في سودانية المنطقة وبالتالي تحدث المساومة, لذلك فالصراع سياسي وإعلامي ويجب الالتفات إلى المفردات في اللغة. القضية الأخرى التي تؤكد أن الحرب وراءها بعض المستشارين الأجانب والذين لهم خبرات واسعة في قضية الحرب وإدارة الصراع, هي استخدام الحرب النفسية في الحرب الدائرة, أولاً تصريحات وزير إعلام دولة جنوب السودان التي وضع فيها ثلاثة شروط للانسحاب من منطقة هجليج, أولاً وضع مراقبين دوليين في المنطقة بعد الانسحاب, وأن توقف القوات المسلحة السودانية قصفها للمناطق الجنوبية, وثالثاً أن تنسحب من منطقة أبيي, ولكن رفض الحكومة السودانية لعدم الامتثال لتلك التصريحات وذهابها مباشرة لعملية الإعداد للحرب, جعل الأمين العام للحركة الشعبية يدخل بقضية استفزازية, ولكنها تعد جزءاً من الحرب النفسية, عندما دعا باقان أموم الرئيس البشير لزيارة جوبا, حيث قال باقان أموم في مؤتمر صحفي في نيروبي: (يجب على الرئيس البشير أن يقوم بزيارة لجوبا لحل القضايا المتبقية). وهنا يتحدث بلغة المنتصر, وذهاب الرئيس البشير يعني الانكسار, ولكن كل تلك السياسات لم تؤتِ أكلها, حيث كانت القيادات في دولة الجنوب تعتقد أن الشعب السوداني سوف يهب لإسقاط النظام, وتحقق أهدافها. ثم انتقلت دولة الجنوب إلى مرحلة أخرى, عندما أصدر الناطق الرسمي باسم الحركة الشعبية بياناً يطالب فيه السودانيون بعدم الانصياع للدعاية التي يقوم بها المؤتمر الوطني, في مرحلة جديدة بهدف كسر الجبهة الداخلية, ومخاطبة الخلايا النائمة. ولكن الحركة الشعبية بدأت تتراجع وتتحسب للمستقبل الذي سوف يكون غامضا. إنها بدأت تتحدث عن الانسحاب على شرط أن ينشر مراقبين دوليين بعد الانسحاب. إذن الإعلام يجب أن يكون دوره في معارك التحديات, ليس بعد أن يقع الحدث, إنما يتنبأ بوقوع الحدث, ويحتاط له, فإذا كانت هناك متابعة مستمرة لتصريحات قيادات دولة جنوب السودان, وتحليل مضمون تلك التصريحات, بالتعاون مع مؤسسات أخرى, هي الطريقة التي تجعل الإعلام يقدم مبادراته, وتنقله نقلة نوعية في إدارة الصراع بأفق أوسع, وتمليك معلومات للشعب وصناع القرار بعد التحليل أو يجعل الآخرين يساهموا معه في تحليل تلك المعلومات, وبالتالي يستطيع أن يخلق اللبنة الأساسية لوحدة الجبهة الداخلية. وفي الختام نسأل الله أن يقي بلادنا شرور الحروب والنزاعات, ونسأله التوفيق.