يكتسب «تقرير مدار الإستراتيجي 2012» أهميته من تقديم مُعديه، وهم مجموعة من الباحثين المختصين، قراءة موضوعية واستشرافية لأهم وأبرز المستجدات والتطورات التي شهدتها الساحة الإسرائيلية في عام 2011، ووجهتها في الفترة المقبلة. ويتناول التقرير التطورات التي شهدتها الساحة الإسرائيلية في سبعة محاور أساسية، هي: إسرائيل ومفاوضات السلام، مشهد العلاقات الخارجية، المشهد السياسي، المشهد الأمني والعسكري، المشهد الاقتصادي، المشهد الاجتماعي ومشهد الفلسطينيين في إسرائيل. أحداث مفصلية يذكر التقرير أن عام 2011 شهد العديد من الأحداث المفصلية ذات الطابع الإستراتيجي، وهي: التغيرات الإقليمية المرتبطة بالربيع العربي، والأزمة المالية العالمية التي تضرب منطقة اليورو واستمرار تحول إسرائيل لتصبح دولة أكثر يمينية وأكثر دينية وأكثر انعزالا. أولا: الربيع العربي وإعادة صياغة خارطة التحالفات الإقليمية: يبين التقرير أن سقوط نظام حسني مبارك في مصر وما أعقبه من صعود للإسلاميين من جهة، والانتفاضة السورية وما يرافقها من ضبابية بشأن وجهة سورية مستقبلا من جهة ثانية، حدثان إقليميان مفصليان. ويضيف أنه ما زال من المبكر استخلاص نتائج قاطعة حول الآثار المستقبلية للأحداث نظرا لاستمرار تفاعلها وسرعة تقلبها، إلا أن النتيجة الأكيدة هي أن خارطة تحالفات إسرائيل وتوازناتها الإقليمية لم تعد كما كانت، وأن أي تخطيط للسياسات الإسرائيلية المستقبلية سيأخذ في الحسبان دخول الشعوب كعامل سياسي مؤثر، بعد أن كانت عاملاً غائباً لعقود. ففي المحور المصري، يقول التقرير إنه على الرغم من الهدوء النسبي، الذي شهدته سيناء سابقا، فقد كانت تتحول تدريجيا بفعل غياب الوجود الأمني المصري الملائم، ومحدودية القدرة على استخدام السلاح، تطبيقا لاتفاق السلام، إلى دفيئة ل»الإجرام المنظم» من جهة، وملجأ للتنظيمات الإسلامية الجهادية من جهة أخرى. أما على المحور السوري، فيشير إلى مجموعة سيناريوهات محتملة هي: سقوط نظام الأسد الذي يرجحه غالبية المحللين الإسرائيليين أو اجتيازه لهذه الأزمة، مع استبعاد التدخل العسكري الأجنبي. ومن السيناريوهات المحتملة أيضا: النموذج اليمني وتفكيك محور «إيران-سوريا-حزب الله- حماس»، الفوضى وتحول الجبهة السورية إلى مصدر للخطر الأمني، حصول حزب الله على أسلحة سورية إستراتيجية واندلاع حرب جديدة لصرف النظر عن سوريا، وأخيرا بقاء النظام السوري وتحوله إلى نظام ضعيف منشغل بذاته. ثانيا: الأزمة الاقتصادية في منطقة اليورو يبين التقرير أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها دول الاتحاد الأوروبي ستسهم في إعطاء نتنياهو مساحة أكبر للمناورة والتهرّب من أي مفاوضات جدية، ومحاولة الاستمرار في سياسة «إدارة الصراع لا حله». ويتابع أن إسرائيل تأخذ تغيّر الخارطة الإقليمية خاصة في ظل الربيع العربي والأزمة الأوروبية الاقتصادية بجدية كبرى، وتسعى إلى إيجاد تحالفات بديلة للتحالفات التي خسرتها، غير أن التقرير يعتبر هذه التحالفات حتى الآن هي مع دول هامشية في الخارطة الإقليمية. وتوقع التقرير استمرار إسرائيل في محاولة تعزيز قوتها العسكرية وقوة الردع وتشديد أواصر التحالف العسكري مع الولاياتالمتحدة، على الرغم من الاختلافات التي تظهر بين الحين والآخر على المستوى السياسي. ثالثا: الصراع بين الصهيونية الجديدة والصهيونية القديمة يوضح التقرير أن إسرائيل تشهد تغيرات داخلية بنيوية تؤثر على وجهتها المستقبلية، وتشير إلى تزايد عزلتها الإقليمية، وهو ما يتجلى بتعاظم انسحاب إسرائيل نحو دولة أكثر يمينية وأكثر قومية وأكثر دينية، وهذا ما تؤكده القوانين التي تتجه نحو تأكيد «قومية ويهودية» الدولة. أحداث ذات تأثير متوسط إضافة إلى الأحداث الكبرى والإستراتيجية السابقة، يستعرض التقرير أحداثا ذات تأثير متوسط هي: 1- انطلاق معركة الانتخابات الرئاسية في أميركا: وهو ما أسهم في زيادة مساحة المناورة والتهرب الإسرائيليين فيما يخص المفاوضات، والتأثير على توجهات الرئيس الأميركي باراك أوباما فيما يتعلق بالملف الفلسطيني وتراجعه عن مواقف سابقة اتخذها، وهو ما قد يستمر خلال 2012. 2- استحقاق أيلول: حيث شكل توجه منظمة التحرير الفلسطينية لطلب انضمام فلسطين إلى عضوية الأممالمتحدة في أيلول 2011 حدثا مهما ومحاولة لوضع معادلة جديدة لآليات حل الصراع وفك الجمود الذي أصاب «عملية السلام»، لكن تبقى أهمية هذه الخطوة منوطة بالخطوات التي ستتلوها والتي ستقوم بها منظمة التحرير الفلسطينية. 3- تسخين الملف الإيراني: شهد الملف الإيراني سخونة متزايدة في الربع الأخير من عام 2011، لكن إمكانية شن ضربة عسكرية على إيران تتأثر بعوامل بالانتخابات في أميركا وعدم الاستقرار في سورية والأزمة المالية العالمية. مستجدات مهمة فيما عدا التغيرات الكبرى والمتوسطة السابقة، شهدت الساحة الإسرائيلية مجموعة من المستجدات المهمة يلخصها التقرير في سبعة محاور أساسية هي: أولا: المشهد التفاوضي استمرت إسرائيل عام 2011 في اتباع سياسات إدارة الصراع وليس حلّه، لفرض حقائق على الأرض تحسّن من وضعية إسرائيل التفاوضية، وخصوصا في القدس، كما تهدف إلى إبقاء الوضع القائم حتى تسنح الفرصة السياسية لإسرائيل لفرض حل يناسبها. واستغلت إسرائيل الأوضاع الدولية والإقليمية والمحلية، لتجاوز استحقاق أيلول من جهة، وتكثيف الاستيطان من جهة أخرى، وقد أسهمت الأزمة الاقتصادية العالمية واقتراب موعد الانتخابات الأميركية في تقليل الضغط على إسرائيل، كما أسهمت الثورات العربية بانشغال العالم العربي بشؤونه الداخلية وبالتالي تقليل الاهتمام بالشأن الفلسطيني. أما على المستوى المحلي فأسهم ضعف المعارضة وغياب البديل السياسي لحكومة نتنياهو في نجاح الأخير في فرض أجندته السياسية في إسرائيل. ثانيا: العلاقات الخارجية أظهرت التطورات التي حدثت عام 2011 أن إسرائيل ما زالت تواجه أزمة انعزال بسبب تعثر التقدم في مسار المفاوضات السلمية، والتدهور في العلاقات مع تركيا وعمليات إعادة التشكيل في المنطقة العربية الناتجة عن الثورات الشعبية. ورغم انشغال العالم بالثورات العربية، ونجاح إسرائيل في استغلال الوضع الراهن من أجل دفع القضية النووية الإيرانية إلى واجهة اهتماماتها، إلا أن التحولات الجارية وخصوصا النجاحات التي حققتها الحركات الإسلامية وإمكانية تصاعد عدم الاستقرار في سوريا تؤرق قيادات إسرائيل العسكرية والسياسية على حد سواء. وعلى صعيد العلاقة مع الولاياتالمتحدة شهد 2011 تقاربا في المواقف خاصة فيما يتعلق برفض الأولى لأي محاولات لفرض قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالاستيطان الإسرائيلي. وفي المقابل أدت الأزمة الاقتصادية الأوروبية والعالمية إلى إضعاف الدور الأوروبي والأميركي في المنطقة، وأفسحت المجال لدخول تأثيرات جديدة متمثلة بنفوذ روسي متجدد يستمد قوته من المصالح المشتركة مع إيران وسوريا. ويشير التقرير إلى خمسة توجهات إسرائيلية لمواجهة التحديات الإقليمية والضغوط الدولية هي: التأكيد على خطورة التهديد الإيراني، اتخاذ موقف ضبابي بالنسبة للثورات العربية، استمرار الاعتقاد بأن المعاهدة السلمية مع مصر كنز إستراتيجي، محاولات الحكومة الإسرائيلية تعميق تأثيرها على السياسة الخارجية الأميركية، استمرار توسيع رقعة التأثير الإسرائيلية في أقاليم ومناطق جديدة وبعيدة وعلى رأسها دول شرق-جنوب آسيا. ثالثا: المشهد السياسي الداخلي استمر اليمين الإسرائيلي عام 2011 بالدفع بمزيد من المبادرات الرامية إلى تكريس سيطرته على المناخ السياسي والاجتماعي العام إلى الأمام، من خلال استغلال واقع وجود ائتلاف يميني مستقر، وبالمقابل استمرت الحكومة في تنفيذ مشاريع الاستيطان ولا سيما تلك المتعلقة بتهويد القدسالمحتلة، وفي عرقلة استئناف المفاوضات السياسية مع السلطة الفلسطينية. وعلى المستوى التشريعي تم تقديم وسن مجموعة من القوانين لتكريس هيمنة اليمين وعلى رأسها: قانون المقاطعة، وقانون القذف والتشهير والهجوم على وسائل الإعلام إضافة إلى «مشروع قانون ديختر» وغيرها. كما شهد عام 2011 أحداثًا بارزة أخرى على المستوى الداخلي، في مقدمتها الهجوم على المحكمة العليا لكبح توجهاتها الليبرالية، وعلى المنظمات اليسارية، وعلى وسائل الإعلام والصحافيين، وعلى التيارات الأكاديمية النقدية، بالإضافة إلى تصعيد الهجوم على المواطنين الفلسطينيين بسن القوانين واتخاذ إجراءات ترمي إلى تضييق الخناق على حقوقهم ووجودهم. رابعا: المشهد العسكري وصفت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية عام 2011 بأنّه مرحلة انتقالية باتجاه إعادة إنتاج بيئة إستراتيجية مغايرة مليئة بالتهديدات للأمن القومي الإسرائيلي. والنتيجة هي التخوف والقلق من فترة الانتقال الفاصلة بين الموجة الأولى من الثورات العربية وبين الوضع الجيوسياسي الجديد الذي سيتكوّن بعد عدة سنوات، مما سيضطر إسرائيل إلى إعادة النظر في برنامجها العسكري وخطة تطوير جاهزية قواتها المسلحة. وفي سياق عرض التقديرات الإستراتيجية وتحليلها، تؤكد المؤسسة الأمنية على وجوب قراءة تداعيات التقلبات التي تصيب كل دولة على حدة، على أساس أن لكل دولة خصائصها وتركيبتها وتقاليدها الخاصة. خامسا: المشهد الاقتصادي يعتبر غلاء المعيشة وتقليص الإنفاق على الخدمات العامة والسياسة الضريبية وعبء الأمن ووجود احتكارات اقتصادية في إسرائيل والدعم الحكومي السخي المقدم للمستوطنين، من أبرز الأسباب التي قادت إلى ظهور حركة للاحتجاج في إسرائيل أرغمت الحكومة على التحرك وتشكيل لجنة خبراء باسم «لجنة تراختنبرغ». وأوصت اللجنة بتخصيص ميزانيات بقيمة ثلاثين مليار شيكل (نحو ثمانية مليارات دولار) خلال السنوات الخمس القادمة، بحيث ينال التعليم القسط الأوفر، وتفكيك الاحتكارات وفرض المزيد من الضرائب على ذوي الدخل العالي واستيراد بضائع لتخفيض الأسعار وغلاء المعيشة. وأشار التقرير إلى أن 1700 شخص في إسرائيل يملكون 650 شركة كبيرة، وأن 22 مجموعة اقتصادية تسيطر على 50% من الاقتصاد، وأن عشر عائلات في إسرائيل تسيطر على 30% من الاقتصاد كله. وترى النّخبة العسكرية وعددٌ من الخبراء الاقتصاديّين وبعض أرباب المرافق المهمّة، أنّ التّهديدات التي تنطوي عليها الثّورات العربية ستفرض إدخال تغييرات جذريّة على حجم ميزانية الأمن وبنيتها، علاوة على إعادة صياغة سلّم الأولويّات الإسرائيلي بشكلٍ جذري. سادسا: المشهد الاجتماعي شكلت حركة الاحتجاج أبرز الأحداث التي صاغت المشهد الاجتماعي عام 2011، وأدت بالحكومة إلى تعيين لجنة «تراختنبرغ» للتعامل مع أهم مطالبها وإيجاد السبل لحلها، ورغم أنها خفتت كثيرا لكنها لم تخب تماما وما زال من المبكر الإعلان عن انتهائها. ومن أبرز ملامح هذه الحركة بدؤها بمجموعة صغيرة من الشبان والشابات، وانطلاقها عفويا، وأنها غير متجانسة. سابعا: الفلسطينيون في إسرائيل شهد عام 2011 استمرارا في انتهاج سياسات التضييق وتشديد الخناق على الفلسطينيين في إسرائيل من خلال القوانين التي تم سنها أو تم تقديمها للكنيست من جهة، وانتهاج سياسات استهدافية من جهة أخرى. فعلى المستوى التشريعي تم سن مجموعة من القوانين تمس مباشرة بالعرب وتهدف إلى تشديد السيطرة عليهم، من بين أهمها: قانون منع إحياء ذكرى النكبة الفلسطينيّة الذي يمنح صلاحية لوزير المالية بسحب ميزانيّات من هيئات تموّلها الحكومة في حال إحيائها ذكرى النكبة. وفيما يتعلق بالخارطة الحزبية للفلسطينيين في إسرائيل، أبرزت الأحداث المتعلقة بالربيع العربي خاصة في سوريا والحراك الاجتماعي في إسرائيل، إضافة إلى توجه السلطة الفلسطينية إلى الأممالمتحدة وطلب الانضمام إليها، تباينا معينا في المواقف، وتخبطا حزبيا داخليا تجاه التغيرات الإقليمية؛ ففي الملف السوري وجد من يؤيد النظام السوري خاصة في الجبهة الديمقراطية للسلام، ومن يعارض النظام بلا هوادة خاصة الحركة الإسلامية. المصدر:الجزيرة