مشاهد كثيرة انمحت من ذاكرة المجتمع السوداني واختفت من مسرح واقعنا أو قل انزوى بعضها وتراجعت عن مخيلتها العديد من الحياة اليومية التي كانت تختزنها وتعيش على وقع صداها... حاجة (ست النفر) تحمل القفة وكيس الدقيق المصنوع من القماش بخطوات أسرع من عمرها لتحلق بالطاحونة, وهنالك تجتمع بجاراتها اللواتي يأتين لذات الغرض إحداهن لطحين الدخن وثالثة لعيش الفتريتة ورابعة للقمح المقشور وتتخلل كلماتهن المتقطعة عبارة (قلتي شنو) بسبب الضجيج المنبعث من صوت الطاحونة وهي تدور بانتظام تؤدي واجبها وتنجز مهامها دون أن تشكو طول عملها أو قسوته... على الرغم من هذا المشهد السوداني القديم اختفى وتوارى عن الأنظار بعد أن تبدلت الثقافة الغذائية للأسر السودانية وحل محلها ما يواكب عصر السرعة التي اضحت السمة الغالبة للمجتمعات إلا أن بعض الأماكن حافظت على هذا الشكل من الثقافة القديمة ولازالت الطاحونة (الدقاقة) تكافح الوسائل الحديثة وتعلن عن وجودها داخل الأسواق مثل سوق ليبيا, السوق الشعبي أم درمان, سوق بحري, سوق ستة الحاج يوسف, سوق مايو.. وعن وجود الطاحونة في حياتنا اليومية يقول حسن (طاحونة) الذي يمارس مهنته منذ أكثر من ستة أعوام في مناطق واحياء الخرطوم: إقبال واهتمام الاسر بما تنتجه الطاحونة تراجع كثيراً عما كان عليه في السابق، ويعود ذلك للاختلاف الكبير الذي طال طبيعة الأدوات المنتجة للاطعمة والمأكولات التي تعتمد عليها الأسر السودانية والتحول الى الأطعمة الجاهزة والمستوردة مما أثر على الإقبال في تناول الكسرة والعصيدة بشكل عام وصناعتها داخل البيوت والمنازل السودانية بشكل خاص وباتت غالبيتها تفضل (الكسرة الجاهزة) إن احتاجت الى ذلك, وبائعات الكسرة والعصيدة أبقن على الطاحونة أو ما يعرف في السابق عند الأهالي ب(الدقاقة) التي تدقق العيش. وارتبط إقبال الناس الطاحونة بين المجموعات السكانية المختلفة بنوع الحبوب، فعلى سبيل المثال سكان واهالي كردفان وغرب السودان يفضلون الفتريتة والدخن، فيما يعتمد أهل الجزيرة ومواطنو الوسط على العيش الأبيض والقمح في كثير من وجباتهم مما يجعلهم اكثر اقبالاً وطلباً عليه. وعن أنواع الحبوب التي يقبل الناس على شرائها بشكل دائم ومستمر، أشار حسن - في حديثه – ل»مع الناس» الى أن هنالك أنواعاً مختلفة من الذرة والحبوب منها الدخن الأصفر الذي يختلف عن الدخن الأبيض الذي يزرع في منطقة الجزيرة التي يفضل أهلها وسكانها هذا النوع خاصة عندما يتم طحنه بالقشارة, لكن الدخن الاصفر هو الاكثر طعامة ومذاقاً والأغلى سعراً مقارنة بغيره من أنواع الحبوب الأخرى, ولهذا النوع طريقة اخرى يستخدمها الناس تعرف بالدامرقة حيث يتم غمره في المياه ويترك في الشمس بعد ذلك لفترة حتى يجف تماماً ومن ثم يدق في (الفندق) وتسهم في إخراج القشرة الخارجية للدخن بعدها يتم طحنه واستخدامه في عمل الصعيدة فقط حيث لا يصلح لصناعة الكسرة.. وتعرف الطاحونة التي مرت بمراحل متعددة قبل أن تصل الى شكلها الحديث كانت تلعب دوراً مهما في حياة الناس في الحضر والريف باعتبارها الوسيلة الوحيدة لطحن الحبوب والذرة اساس الطعام, وتعرف الطاحونة ب(الدقاقة) ولازال هذا الاسم متداولاً بين الأهالي في بعض المناطق الريفية والحدودية رغم اختفائه داخل المدن الكبيرة لاسيما العاصمة القومية.