قال صاحب الحافلة في سره: هل سيقتلونني إذا مات؟ قلت أنا بهذيان الأحياء: ما أجمل ذاك العالم الفسيح. ثم تبسمت كما يتبسم الموتى تماماً. قالت حفنة من التراب تكومت بالقرب من رأسي: جسدي خِرقَةٌ تُخاطُ إلى الأرض فيا خائطَ الخلائقِ خِطني. ثم ضحكت ذرة ذرة!! أما الشرطي فكان يود لو أن والده كان خصياً، لا يندلق منه ماء الحياة. كنت قبل أن تفاجئني هذه الميتة بلحظات، أنوي عبور الشارع المسفلت، لأغذي هاتفي الجوال «بكرت» للشحن قيمته خمسة جنيهات، لأتحدث إلى «مكة» كما يتحدث الأحياء. هي ذات ورقة خمسة الجنيهات التي سرقها رجل الشرطة الذي باشر إجراء التحري مع سائق الحافلة التي دهستني.. ستجدون على الورقة النقدية بقعة كبيرة من الدم.. هو دمي الذي سال عبر أنفي وبلغ منتهاه في الجانب الأيسر من جيب القميص الذي كان يخصني وأنا حي.. ولأنني كنت مشغولاً بحفل الوداع الذي أقيم في رأسي، على شرف افتراق روحي عن جسدي، لم أتبين اليد التي استقر فيها الهاتف الجوال الذي كان ملكي.. لكن ما كنت أدركه أن الهاتف الجوال لم يصبه التلف كلياً، إنما فقد وإلى الأبد غطاءه البلاستيكي. وإن لم تخني التلافيف التي تحشو رأسي المهشم، لقلت إن الهاتف استقبل قبل لحظات من إبعاده عني، رنة من هاتف مكة، فهي عادة ما تفعل ذلك.. سألتني يا مكة في آخر رسالة نصية عن كيف جاز للإنسان، بأنانية خرساء أو بدونها، أن يزرع الهول في قلب هذا الكوكب المنتظم، حتى كاد يخنقه لو وجد له رقبة، تارة باسم معرفة تنفي ما عداها، وهي محض طريقة للتسلط ليس إلا، خنقته الأنانية تارة باسم المادة التي لا تعيش إلا بالتهامها لكل ما تسميه روحا، أو باسم روحٍ لا قوام لها إلا إذا نبذت المادة، وتارة باسم سلطة صريحة هي ما تبقى من الله في الأرض. سألتني عن وحشية التملك، وإرادة كل بطريقته، في أن يسيطر على هذه الأرض، وأن يمتلكها ويدخلها كاملة في جيبه. هل ثمة من يدخل الكرة الأرضية في جيبه؟ هل ثمة جيب يسع الكرة الأرضية؟ لا.. ولكن اتفقنا على أن ثمة من يرغب في ذلك!! تباً لمن يقرأ رسائل الموتى خاصتهم. أنا كنت قبل أن أموت، أجزم مثل جميع الأحياء بأن الذاكرة من الإنسان مكانها الرأس، ولكن إذا كنتم تعتقدون في صدق الموتى سأقول لكم إنه لا وجود لذاكرة البتة!! إنما محض هجوم غاشم من ماضي الأحياء على حاضرهم.. لا تغرنكم حلاوته التي يلتف بها أحياناً.. هي حلاوة يغطي بها أنانيته المتجذرة، تلك التي تشبه أنانية الشرطي الذي سرق خمسة الجنيهات، وهو لا يتورع في أن يسرق كرتكم الأرضية. ولشدة ضعف هذه الذاكرة و(حقارتها) فإنها لم تتورط قط في معركة مع المستقبل، بل حينما دعيت عدة مرات للمنازلة، ادَّعت الواقعية وورطت ما يسميه الأحياء بالخيال. كم هي جبانة هذه الذكرى!! إنها تخشى الموت.. إنها مسكينة، فهي لم تجرب أن تتكئ مثلما أتكئ أنا في آن الموتى، آمناً منذ ألف سنة مما يعد الأحياء. أي ماض سيهجم عليك يا مكة؟