آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هومي بابا: السياق التاريخي للصراع الذي اشتغلت عليه «آيات شيطانية» هو براد فورد لا المذهب الشيعي
نشر في الأحداث يوم 08 - 05 - 2012


أجراه: جوناثان روثرفورد:
على هذه الصفحة يُترجم لنا الزميل الكاتب عز الدين محمد زين حواراً مهماً مع المفكر الهندي هومي بابا، أستاذ الأدب الإنكليزي والأمريكي في جامعة هارفارد، ورئيس قسم الدراسات الإنسانية فيها. والذي يعتبر واحداً من أهم المفكرين المعاصرين، طبعت له العديد من الدراسات، أهمها: أمم ومرويات، موقع الثقافة، حول الخيار الثقافي، حياة جامدة. تأثر بالجهود التي قدمها المؤرخ الهندي رانجيت حجا الذي حاول قراءة تاريخ الهند على أسس جديدة تتجاهل النظرة التقليدية التي قدماها المستعمر البريطاني والبرجوازية الهندية، وهو ما يسمى بمدرسة التابع التي انطوى تحت تأثيرها مجموعة من المفكرين الهنود.
من المحرر
في مقال لك بعنوان «الالتزام بالنظرية» قمتَ بتحليل عمليتَي التغيير الثقافي والتحوُّل. الأمر المركزي في تحليلك هذا هو تمييزك بين التنوُّع الثقافي والاختلاف الثقافي، وإلى جانب تأكيدك على الاختلاف، أكَّدتَ أيضاً على فكرتَي الترجمة والهُجنة. فهلاَّ أوضحتَ لنا هذه المصطلحات التي استخدمتها؟
-تعود محاولة تصوُّرنا الاختلاف الثقافي باعتباره مقابلاً للتنوُّع الثقافي، لوعينا بتقليد ليبيرالي تماماً، خصوصاً النسبوية الفلسفية وبعض أشكال الأنثربولوجيا أيضاً. فكرة أن الثقافات متنوِّعة -وهذا معناه أن تنوُّع الثقافات شيء إيجابي يجب تشجيعه- فكرة معروفة منذ زمن. ووحدها المجتمعات الديموقراطية، حيث المتَّسع للجميع، تستطيع أن تقول إنها تُشجِّع وتتَّسع للتنوُّع الثقافي. العلامة التي تدلُّ على وجهة النظر المُتحضِّرة هي القُدرة على فهم الثقافات ووضعها في «متحف خيالي» حين يظنُّ أحدُنا بأنه يجب عليه جمعها وتقويمها. إنَّ الذائقة الغربية هي القدرة على فهم الثقافات ووضعها في إطار زمني كونيّ، ومن ثمَّ الإقرار بسياقاتها التاريخية والاجتماعية المتنوِّعة، ليتم تجاوزها في ما بعد (وتشفيفها). وتبعاً لذلك، يمكنك التعرُّف إلى الطريقة التي تحوَّلت بها عملية التصديق على التنوُّع الثقافي عقبةً في هذا البلد (بريطانيا). فثمة مشكلتان: الأولى واضحة، وهي أنه رغم التشجيع الدائم للتنوُّع الثقافي، فثمة عملية احتواء مقابلة لهذا التنوُّع. وقد تشكَّلت عادة «التشفيف» هذه داخل المجتمع المُضيف أو الثقافة المُهيمنة، وتقول هذه العادة: الثقافات الأخرى رائعة، لكن يجب علينا أن نجد طريقة لوضعها داخل شبكتنا. وهذا ما عنيتُه بخلق التنوُّع الثقافي واحتواء الاختلاف الثقافي. المشكلة الثانية، كما نعلم جيّداً، هي أن العنصرية لم تزل موجودة وبأشكال مختلفة في المجتمعات التي شجَّعت التعدُّدية الثقافية. والسبب هو أن «العالمية» التي تسمح، للمفارقة، بالتنوُّع الثقافي هي التي تُقنِّع “عادات المركزية العِرقية، قِيمها ومصالحها"
إنَّ الطبيعة المُتغيِّرة لما يُعرَف ب«السكان الوطنيين» مَبنيَّة من مُختلف أنواع المصالح ومُختلف التواريخ الثقافية ومُختلف الأنساب ما بعد الكولونيالية ومُختلف التوجُّهات الجنسية. إن الطبيعة الكُلِّية للمجال العام مُتغيِّرة، لذلك نحن نحتاج، حقيقةً، إلى فكرة السياسات التي تستند إلى الهُويَّات السياسية غير المتكافئة، المتعدِّدة وربما العدائية كذلك. ويجب ألا نخلط بين بعض أشكال التعدُّدية القائمة على الفردانيات المستقلة ذاتياً وبين الفكرة المقابلة لها؛ التنوُّع الثقافي. القضية هي أنَّ هذه الهُويَّات المتعدِّدة أفصحت عن نفسها في لحظة تاريخية مُعيِّنة وبطريقة متحدِّية، إيجابياً أو سلبياً، تقدُّمياً أو رجعياً، وغالباً صِراعياً، وفي أحايين أُخرى بشكل لا يقبل المُقايسة. ولا أعني بتلك اللحظة ظهور مواهب أو قُدرات فردية. إذاً، فقد بَدَت التعدُّدية الثقافية كمحاولة استجابة للعملية الديناميكية للإفصاح عن الاختلاف الثقافي والتحكُّم فيها في آنٍ واحد، ولإدارة إجماع يستند إلى معيار نشر التنوُّع الثقافي.
غرضي من التحدُّث عن الاختلاف الثقافي، بدلاً من التنوُّع الثقافي، هو الاعتراف بأن وجهة النظر النسبية الليبيرالية هذه، بحدِّ ذاتها غير ملائمة ولم تدرك بشكل شامل موقفها من العالمية والمحلية اللتين بنت منهما أحكامها الثقافية والسياسية.
بمفهوم الاختلاف، وله تاريخه النظري في فكر ما بعد البنيوية، والتحليل النفسي (بالمعنى الرنَّان للاختلاف)، وماركسية ما بعد ألتوسير، وعمل فانون النموذجي... كنتُ أحاول أن أرى كيف أن فكرة الغرب نفسها أو الثقافة الغربية بنسبيتها وليبيراليتها (وهذه إحدى أساطير التقدِّم المؤثِّرة جداً) تحتوي على حافة حادة. كنتُ أحاول، بفكرة الاختلاف الثقافي، أن أضع نفسي في ذلك الموقع «البَيْنَ بَيْن» في تلك المساحة المُنتِجة، حيث بناء الثقافة كاختلاف وبروح الغَيريَّة.
تتأسَّس اللامُقايسة، غالباً، بين الثقافات المختلفة، بين الممارسات الثقافية وبين الاختلاف في بناء الثقافات داخل مجموعات مختلفة. ومهما كنتَ عاقلاً أو عقلانياً (لأن العقلانية أيديولوجيا وليست فقط «طريقة» تكون بها حسَّاساً)، فسيصعُب عليك ويستحيل، بل وسيكون له أثر عكسي إن حاولت تركيب أشكال مختلفة من الثقافات مع بعضها البعض، ثم ادَّعيت إمكان تعايشها بسهولة.
إذا حاولنا فهم الطرق التي تبني بها الممارسات الثقافية أنظمةَ المعنى عندها ومنظماتها الاجتماعية، اعتماداً على الزعم القائل إن كل أشكال التنوُّع الثقافي يُمكن أن تُفهم، على مستوى ما، بالاستناد إلى مفهوم عالمي مُحدَّد سواء أكان هذا المفهوم الإنسان أم الطبقة أم العِرق، فستكون محاولتنا هذه خطِرة ومحدودة في الوقت ذاته.
إلى جانب ذلك، فللنسبية، كما للعالمية، أشكالها المتطرِّفة والتي يمكن أن تكون جاذبة، لكن حتى هذه الأشكال تُعتبر - أساساً - جزءاً من العملية ذاتها. وفي هذه النقطة أودُّ أن أطرح فكرة الترجمة الثقافية (واستخدامي لهذه الكلمة كان قد تشكَّل من التوضيحات التي قدَّمها فولتر بنيامين عن مهام الترجمة ومهام المترجم، لأقول عبرها إن كل أشكال الثقافة، بطريقة ما، ترتبط ببعضها البعض لأن الثقافة «ترميز» أو نشاط رمزي. إنَّ الإفصاح عن الثقافات ممكن، ليس لأن المحتويات مألوفة ومتشابهة، بل لأن كل الثقافات مُشكَّلة من الرمز وهي «تكوين الذات» وممارسة استكمالها. نحن نقاوم التفكير في كيف أن فعل الترميز، فعل إنتاج الأيقونات، الرموز، الأساطير والمجازات التي من خلالها نعيش الثقافة، تحتوي بداخلها دائماً (وهذا بفضل الحقيقة القائلة بأنها أشكال التمثُّل) على قدر من الاستلاب الذاتي المحدود.
ينبني المعنى من خلال حاجز الاختلاف الذي يفصل بين الدال والمدلول، تبعاً لذلك فإنه لا توجد ثقافة مُمتلئة بذاتها ولذاتها. وليس السبب هو أن ثمة ثقافات أخرى تناقض سلطتها وحسب، بل لأنها تسعى - من خلال نشاط تشكيل الرموز الخاص بها واستكمالها عبر عملية التمثُّل وصناعة المعنى والإشارات - إلى تأسيس هُويَّة عُضويَّة، أصيلة ومتكاملة.
وأعني الترجمة قبل كل شيء، فهي العملية التي نُموضع بها المعنى الثقافي، ويجب أن تكون دائماً في حالة تثنية وتغريب في علاقتها بذاتها. بهذا المعنى إذاً، لا يمكن أن نقول عن الثقافة مثلاً: بذاتها ولذاتها، لأن جوهر الثقافات دائماً عُرضة للترجمة.
نظرية الثقافة هذه قريبة الشبه بنظرية اللغة، لأن الثقافة واللغة خاضعتان للعملية ذاتها: الترجمة - ولا أستخدم كلمة «ترجمة» بالمعنى اللغوي الصارم كأن نقول مثلاً «تُرجِمَ هذا الكتاب من الإنكليزية إلى الفرنسية»، وإنما أستخدمها كفكرة أو مجاز يُمارِس عملية الإزاحة داخل العلامة اللغوية حسب فولتر بنيامين. بتطوير تلك الفكرة ستبدو الترجمة كطريقة في المحاكاة، لكن بالمعنى الإزاحي الماكر، بحيث لا تكون الأولوية لتعزيز الأصل، بل لمحاكاته، لنسخه ونقله وتزييفه... فالأصل لم ينتهِ أبداً أو لم يكتمل في ذاته، ودائماً ما ينفتح على الترجمة، لذا لا يمكن أبداً القول إن هناك لحظة قَبْلية كاملة لوجود ما أو معنى (أي جوهر). وهذا يعني، حقيقةً، أن الثقافات تتأسَّس في علاقتها بالغيرية (الجوَّانية) الموجودة داخل نشاط تشكيل الرموز الخاص بها، ما يُفكِّك بُناها في آخر الأمر. ينفتح إمكان الإفصاح عن المُختلف، عن الممارسات الثقافية وقَبْلِيات أخرى لا يمكن مُقايستها، من خلال عملية الإزاحة أو التحييد.
تأتي الآن فكرة الهُجنة من التوصيفَين الأوليَّين اللذين أعطيتهما لأصل الاختلاف وفكرة الترجمة، لأنه إذا أنكرتْ الترجمةُ الثقافية (في حالتَيها كتمثُّل وكإعادة إنتاج) جوهريةَ أصل مُعطى قبْلاً أو ثقافة أصلية، فستكون كل أشكال الثقافة، في هذه الحالة، وباستمرار، في عملية هُجنة. أهمية الهُجنة بالنسبة إليَّ ليست في قدرتها على اقتفاء أثر اللحظتَين اللتين انبثقت منهما اللحظة الثالثة، بل في أنها الفضاء الثالث الذي يسمح للمواقع الأُخرى بالانبثاق: يُزيح الفضاء الثالث التواريخ التي أسَّسته، مُكوِّناً بُنىً سلطوية جديدة ومبادرات سياسية جديدة؛ تلك التي تُفهم، على نحو غير دقيق، عندما يتمُّ استقبالها كحكمة.
مسألة سلمان رشدي
أستطيع رؤية كيف أن ذلك يمنحُنا القدرة على مراوغة سياسات الاستقطاب والثنائية الثقافية، لكن هل بإمكانك التعامل مع هذا الفضاء الثالث باعتباره هُويَّة ما مثلاً؟
- لا. ليس هُويَّة (الهُويَّة التي يمكن إدراكها بالمعنى الذي يقترحه التحليل النفسي). أنا أحاول أن أتحدَّث عن الهُجنة عبر «تَناظُر التحليل النفسي». فالهُجنة عملية خلق هُويَّة من خلال الموضوع وبه أيضاً، وهذا الموضوع (الغيرية) يُحمِّل مركز تكوين الهُويَّة (الذات) دائماً المتناقضات بسبب تدخُّل الغيرية في تكوينه. وتكمن أهمية الهُجنة في حملها آثار تلك المشاعر والممارسات التي شكَّلتها، كما الترجمة التي تحمل آثارَ معانٍ أو خطابات معيَّنة. إنَّ الهُجنة لا تُعطي هذه المعاني والخطابات سلطة كونها قَبْلية أو أصلية: هي قَبْلية فقط بمعنى كونها ظهرت في المقدِّمة. تساعد عملية الهجنة الثقافية على ظهور شيء ما مختلف، شيء جديد وغير مُدرَك، مكان جديد للتفاوض حول المعنى والتمثل. أفضل مثال على ذلك هو شكل الهُجنة الذي قدَّمته رواية «آيات شيطانية» حيث أثارت خلافات عديدة حول الأصل، حول تأليفه وسلطته... أعني القرآن. كل ما قامت به «آيات شيطانية» هو أنها عكست مساجلات الخطابات اللاهوتية عن التدخُّلات في النص القرآني ووضعيَّتها كتدخُّلات غير مشروعة... إلخ.
المثير في الأمر هو كيف أن استخدام نوع آخر من لغة التمثُّل - سَمِّه المجاز المهاجر أو رواية ما بعد الحداثة أو سَمِّه ما شئت - وإعطاء سياق لأشكال إحيائية أخرى (الشروط الحضارية للمدينة الحديثة، الجنسانية المعاصرة... إلخ)، سيجعلان من المعارف والمساجلات حول مكانة القرآن شيئاً مختلفاً في «آيات شيطانية»، وخلال ذلك التحوُّل وتلك الترجمة الثقافية ستصبح قيم وآثار تلك المعارف والمساجلات السياسية والاجتماعية والثقافية غير قابلة للمُقايسة مع تقاليد التأويل اللاهوتي أو التاريخي الذي شكَّل الثقافة الحاضنة للقرآن كتابةً وقراءةً.
يُوحي التفكير في الهجرة باعتبارها مجازاً، بأن لغة الرواية شكلها وبلاغتها مفتوحة حتماً للمعاني المتناقضة المزدوجة والخادعة. يُنتِج المجاز عوالمَ هجينةً، بدمجه لتقاليد فكرية غير متشابهة. بمعنى أن «آيات شيطانية» مبنية حول مجاز المغترب. وتكمن أهمية التفكير في الهجرة باعتبارها مجازاً في أنها تعود بنا إلى الهجوم الاجتماعي الكبير الذي تعرَّضت له الرواية (الطريقة التي قُرئت بها وأُوِّلت وهي أنها تحدٍّ شيطاني لسلطة الإسلام) وتسمح لنا أيضاً، بأن نرى كيف أنه قد أُسيء فهم شكل الرواية بشكل عميق لأنها تدور حول مجاز المُغترَب.
قبل التحدَّث عن «آيات شيطانية»، أودُّ العودة بك إلى ما فعلته من تمييز بين الهُويَّة وبين التعرُّف إلى الهُويَّة. هلاَّ توسَّعت في هذا المنحى؟
- أشعر بأنه ما مِن إمكان لإنتاج ثقافة تستطيع أن تُفصح عن الاختلاف وتتعايش معه إلاَّ إذا تمَّ تأسيسها على قاعدة أنَّ الذات «منزوعة السيادة». ويبدو لي أنَّ المعالجة السياسية لهذه المسألة - يساراً - تقوم ببساطة على إزاحة جوهرية الذات (الهُويَّة المستقلَّة ذاتياً) وإحلال هُويَّة ذات جوهر ثقافوسياسي، وهي الطبقة بدلاً عنها. إذاً، فقد تفكَّكت الذاتية الفردانية، ويحدث ذلك فقط، حين يتمُّ استبدالها ببعض التصنيفات التأسيسية كالطبقة مثلاً، ليتمّ من خلال النسيج الطبقي هذا دمج وتطبيع الأشكال الأخرى للاختلاف الثقافي. لهذا، كما نعلم، فإن السياسات الطبقية ذات التوجُّهات الاشتراكية أو الماركسية في هذا البلد (بريطانيا) قد تنصَّلت من كُبرى الأسئلة والقَبْلِيات المتعلِّقة بالعرق أو النوع.
لقد احتُفيَ بتشظِّي الهُويَّة باعتباره، غالباً، نوعاً من أنواع الليبيرالية الفوضوية المحضة أو «الإرادوية»، لكني أُفضِّل النظر إليه باعتباره إدراكاً لأهمية «الانفصال عن الذات» من أجل بناء أشكال التضامن. فقط بنزع السيادة عن الذات نستطيع الحصول على الحرِّية التي تُوفِّرها السياسات المُنفتحة على قبول الاختلاف الثقافي.
الملمحُ الحاسم لهذ الوعي الجديد هو أن هذه السياسة لا تحتاج إلى ادِّعاء الشمولية من أجل أن تُشرعِن لفعل سياسي أو لممارسة ثقافية، وهذا هو مربط الفرس. مع ذلك فثمة أيضاً وعلى الدوام أسلوب آخر تصبح فيه الشمولية أساس أي وعي اجتماعي شرعي. وعندما يحدث ذلك فإنك ستخسر أهمية ما تجلَّى - وأستخدم هذه المفردة تحديداً - من عالم الاختلاف.
أظهرت لنا مسألة رشدي ذلك النوع من الأصولية: بعيداً عن أن هنالك اثنَين متضادَّين تحوَّلا بعد الهُجنة إلى ثالث، ثمة لا مُقايسة هنا إذاً، بمعنى وجود معسكرَين كلاهما راسخٌ في مكانه وبينهما صراعٌ لا صُلح بعده. أرجو أن تُعلِّق على ذلك.
- ستلاحظ حسب المدى الذي ذهبت إليه حالة سلمان رشدي، وبكل سهولة، أن ما نراه على مستوى واحد هو ذلك النوع العنيد الصامد من رسوخ الاختلاف الذي تمَّ تأسيسه، لكن سترى أيضاً على المستوى العملي أن هذا ليس كل ما في الأمر، إذ توجد على مستوى السطح مثلاً وجهة النظر الليبيرالية التي تفترض حق الكتابة، حق الكلام وحق التعبير باعتبارها أموراً مركزية في المجتمع العلماني. إذاً، فثمة التوكيد الراسخ على هذه الثوابت، لكنْ ثمة أيضاً، وفي كل أنحاء هذا المجتمع، تحويرٌ بطيء لهذا الموقع، ويتمُّ التخفيف من حِدَّة هذا التحوير بالتعليق على اللامقروئية التي حظيَ بها الكتاب، وهذه النقطة مثيرة للاهتمام. بالطبع لنا الحق في أن نكتب، لكن هذا لا يعني أننا نريد كل ما يُكتب، فالحقيقة أننا عندما نكرِّر القول بأننا لا نريد ما كُتِب فنحن بذلك نُرسل، بطريقة أو بأُخرى، إشاراتٍ للإيرانيين مفادها أننا نتبرَّأ مما كُتِب مرسلين، في الوقت ذاته، إشاراتٍ لذاتنا الليبيرالية (المغرورة) مفادُها أننا أُناس رائعون لأننا ندعم ما لا نريده. توجد إذاً، داخل الجناح الليبيرالي من الخلاف استراتيجية للتفشيل الآمن، وهي أكثر تعقيداً من القول «إننا مُتمسِّكون بقيمنا الليبيرالية»
أنتَ مُحقٌّ في ما يختصُّ بتحديدك للموقع الأصولي (وهي تسمية تبسيطية وخاطئة)، فبحسب آخر استطلاع للرأي العام فإن أكثر من 38% من مسلمي بريطانيا يعتقدون أن العقوبة الصحيحة والجديرة بسلمان رشدي هي الموت. لكني أعتقد أن هذه الحالة قد برهنت أيضاً، على أن هنالك أكثر من موقع داخل المذهب الشيعي، والذي يُصنَّف ويُقرأ بكل سهولة على أنه أصولي. صحيح أن هذه المواقع غير مُهيمنة في الوقت الراهن، لكنها صاعدة - وهنا دعني أدَّعي ادِّعاءً عملياً يقول بأن هنالك نوعاً من الهُجنة، تلك التي توجد بالرغم من تأكيدك الدائم على نقاء معتقداتك - وقد صعدت إلى السطح، بشكل أكثر تفصيلاً، من قبل أن تظهر فكرة التقابل بين القانون الديني (الشريعة) والقانون العلماني، ومن قبل حضور اللحظة الصراعية الصريحة أو الثغرة الصريحة التي ستمرُّ من خلالها - شئت ذلك أم أبيت - العقيدة الأصولية. إذاً فقد طَرحت العديد من الأسئلة حول إمكان تواؤم المعتقدات الأصولية المعاصرة مع العالم الذي عليها أن تعيش فيه الآن. جديرٌ بالذكر أن ضياء الدين سردار قد ذكرَ في مقابلة صحافية معه أن فتوى إهدار دم سلمان رشدي التي صدرت عن رأي قضائي كلاسيكي يُعرف بالفقه، تخلو من روح تعاليم الإسلام، وأن الكثير من القوانين التي اشتُقَّت منه لا تصلح لمجتمعات إسلامية حديثة.
لكن دع كل هذا جانباً. لو حاولنا أن ننظر إلى هذه المسألة بأثر رجعي، أو حاولنا أن نتقدَّم بمواقع النظر سنواتٍ إلى الأمام لنُلقي عليها نظرة من هناك، فحتماً سنرى العديد من الفوارق داخل أكثر المواقع الأصولية تصلباً وتماسكاً، وهي ليست فوارق على مستوى التأويل اللاهوتي فحسب، بل على مستوى الفعالية؛ كيف تستطيع هذه الأفكار أن تؤثِّر على السياق الاجتماعي وما هي طبيعة هذا السياق الاجتماعي؟
المُذهل في الأمر أن الأصولية التي قيل إنها تُعبِّر عن ماضٍ عتيق، بدأنا نراها الآن كلاعب أساسي في أي تنافس يتعلَّق باللعبة السياسية الحديثة. وكم من لحظات سياسية معاصرة كانت أعطتها مجالاً وحَدَّتَها في الوقت ذاته. إذاً فالسياق التاريخي الفعَّال للصراع الذي اشتغلت عليه «آيات شيطانية» هو سياق «براد فورد» البريطانية لا سياق المذهب الشيعي في إيران.
أنت تُحَاجِج إذاً بأن مشكلة الحداثة هي عدم قدرتها على التعامل مع الأشكال الثقافية العتيقة المُعارضة لها: ما يهمُّني هنا في ما يختصُّ بكل أشكال الجوهرانية، وابنة عمِّها الأكثر مُحافظة (الأُصولية) هو أنها تُنكر الاختلاف وتمحو ممارساتها في الهيمنة والتفرقة. أرجو أن تُعلِّق على هذه الموضوعة. أنا أفترض أيضاً، أن قضية رُشدي هي التي جلبت كل ذلك، بالإضافة إلى صعود الأصولية المسيحية أيضاً؟
- إذا سمحت لي بتوضيح ما هو إشكالي بالنسبة إليَّ، في ما يختصُّ بفهم موقع الأصولية في قضية رشدي، فسأقول إن الأصولية قُدِّمت باعتبارها شكلاً عتيقاً، يعود غالباً إلى العصور الوسطى، لذا ستبدو غريبة علينا وعبثية. لكن المسألة هي أن رهانات «آيات شيطانية» معاصرة جداً، وهي تقع خارج إطار الدولة السياسية العاملة في وقتنا الحاضر، هذا إذا لم تكن فعلاً تملك مساحة فكرية ملموسة. إلى جانب ذلك فإن ملايين المسلمين الذين يصنعون هذه الرهانات لا يبعدون عن هنا كثيراً، هم ليسوا جزءاً من عالم ثقافي اجتماعي آخر؛ مجتمع آخر. هم يعيشون بيننا هنا. في براد فورد. أعتقد أننا تعمَّدنا إساءة فهم القضية بإحالتنا لهم على ماضٍ بعيد ليتسنَّى لنا سماع أصواتهم الآتية من زمن آخر؛ كصرخة متعطِّشة إلى الدماء.
سيطرح سؤال الحداثة في تلك الحالة مشكلةً حقيقية أمام اليسار، لأنه حاول دائماً أن يربط نفسه بذلك التقليد الذي يعود إلى الفلسفة الليبيرالية الغربية والذي وصفته أنت وانتقدته قبل قليل. لكن كيف يمكن عقد قِران مع الجوهرانية التي تُصرُّ على أنها تمتلك الحقيقة وتسعى إلى تأسيس هُويَّة ثقافية ثابتة؟ كيف يمكن لتصوُّراتك عن الهُجنة والاختلاف أن تصنع حلفاً مع دوائر ذات قيم أُصولية، إذا صحَّ التعبير؟
- أعتقد بسهولة ذلك، لأن تصوُّر الهُجنة - كما أوضحتُه في مقالي «الالتزام بالنظرية» الذي أحلتني عليه - يقوم على حقيقة أن أي صراع سياسي مُعيَّن يساعد على انفتاح مواقع جديدة، وإذا واصلت في إحالة تلك المواقع الجديدة على المبادئ القديمة التي انبثقت عنها فسوف تعجز عن المشاركة فيها بالشكل الإبداعي والمُنتج. فكما قالها نلسون مانديلا ذات يوم: «عليك أن تفاوض حتى لو كنت في المعركة». فالتفاوض هو كل ما تقوم عليه السياسة. ونحن في حالة تفاوض حتى لو لم نكن نعلم بذلك، نحن دائماً نتفاوض في أي موقف معارضة أو عداء سياسي؛ التمرُّد تفاوض، التفلُّت تفاوض. التفاوض ليس نوعاً من تقديم التنازلات أو استنفاد الخيارات كما يفهمه الناس، عادةً، بكل سهولة. في الاتجاه ذاته نحن نحتاج إلى إعادة صوغ معنى الإصلاحية: كل أشكال النشاط التقدُّمي أو الراديكالي تسعى إلى الإصلاحات أو إعادة الهيكلة، لذلك أعتقد أن التفاوض السياسي مسألة مهمَّة جداً والهُجنة هي، بالضبط، أنه عندما ينشأ موقف أو حِلف جديد سيتطلب منك ذلك أن تنقل مبادئك، وتُعيد التفكير فيها وتُوسِّعها. أما عندما تأتي إلى اليسار فستجد أن التقليدية المتحفِّظة هي سيِّدة الموقف. فهو يحاول دائماً قراءة الأوضاع الجديدة على ضوء نماذج مُعطاة سلفاً أو مخططات جاهزة، هي انعكاس لرد الفعل؛ الذهنية المحافظة.
لحظة التناقض في تاريخ الغرب
كانت تدور بذهني أثناء سؤالي السابق عن التحالفات مع الدوائر الأصولية، الفكرةُ الجذابة لتحالف الأخضر مع الأحمر. فيبدو لي أن العامل الفعَّال داخل الانفجار المعاصر للوعي الأخضر يتمثَّل في البحث عن قيم أصولية، عن فكرة المقدَّس - حُرمة الأرض الأم؛ العودة من الثقافة إلى الطبيعة، كخط معرفي؟
- يبدو أن الموقف معقَّد جداً في ما يختصُّ بما يُسمَّى «السياسات الخضراء»، لأن الحافز الأعظم لها، والذي ظهر الآن، يتمثَّل في التهديد النووي الذي جسَّده انفجار تشرنوبل ك«رمز لنبوءة مرعبة». أعتقد أننا لم نتفحَّص الآثار النفسية، وبالطبع، السياسية لحدث بأهمية تشرنوبل. ستُحسُّ عندما يتعلق الأمر بزلزال، أن فيه شيئاً من الطبيعة، شيئاً من الثقافة، لكن في حالة تشرنوبل السبب هو الثقافة والعلم. هي كارثة من صُنعِنا وتخطيطنا، وهذا لا يعني أننا خططنا لذلك فعلاً لكن بالمنظور العام. لكن تشرنوبل وبوبال اللذين صارا «نُصبَين تذكاريَّين للمآسي البيئية» هما عبارة عن حوادث، ونحن نحتاج النظر إلى تاريخ تلك الحوادث. لأن الجيّد في الأمر أن السياسات الخضراء جاءت كنتيجة لنقد تاريخ العقلانية والتقدُّم العلمي. إذا كان السياسيون الخُضْر مستعدُّون للقول إن السياسات الخضراء لا تتوافق مع الرؤية الرأسمالية للتنمية الاجتماعية، فسيكون قولهم هذا أفضل ترياق للأيديولوجيا السائدة التي كَتبَ عنها باترك رايت، والتي تُمثِّل التصوُّر الإنكليزي للذات والتصوُّر المتكامل للماضي الأركادي. ويمكنك أن تجد هذا التصوُّر في الأدب لدى أف. آر. ليفس. بل إنك ستجده أحياناًً يزحف على حواف أعمال أي. بي. تومبسون، وبالطبع في أعمال أنوتش باول حيث يصبح الريف الإنكليزي في حالة توأمة لا تنفصم مع الإمبراطورية؛ فكرة المجتمع العضوي. وهكذا سيُمثِّل قولهم ذاك ترياقاً جيِّداً جداً، لأن السياسات الخضراء أخذت ذلك النوع من اللغة الأركادية واستخدمتها ضدَّ نفسها. من الطبيعي أن يُقدِّم أي «حزب خُضْر اشتراكي متماسك» نقداً لمزاعم التنمية الرأسمالية الصناعية التكنولوجية الحديثة التي تُخرِّب الكوكب، لكنه سيفكِّك أيضاً الأركاديانية الماضوية للمحافظين.
لقد تحدَّثنا عن أهمية السياسات الخضراء وعن القُوى الدينية والثقافية التي تُمثِّل تحدِّياً للحداثة في هذا البلد. لكني أودُّ أن أحيلك على تعليقٍ لك قلت فيه إن اللحظة التأسيسية للحداثة هي اللحظة الكولونيالية. بمعنى أن اللحظة الكولونيالية هي تاريخ الغرب. أرجو أن تبرهن على ذلك.
- أعتقد أننا بحاجة إلى الانتباه لحقيقة أن مغامرة الحداثة الغربية قد تموضعت، كما هي بشكل عام، في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، وهي اللحظة التي ظهرت فيها السرديات الكبرى للدولة، المواطن، القيمة الثقافية، الفن، العلم والرواية. اللحظة التي جاءت فيها هذه الخطابات الثقافية الرئيسة والهُويَّات لتُعرِّف التنوير في المجتمع الغربي والعقلانية النقدية للفرد الغربي، هي اللحظة ذاتها التي بدأ فيها الغرب بإنتاج تاريخ آخر لنفسه من خلال أملاكه وعلاقاته الكولونيالية.
إنَّ التوتُّر الأيديولوجي في تاريخ الغرب، والذي يمكن رؤيته في تزامن وجود السلطة الاستبدادية مع ولادة الديموقراطية والحداثة، لم يُكتَب بدقَّة. وربما العجز عن حل هذا التناقض هو ما أدى في النهاية إلى عدم كتابة تاريخ الغرب الاستبدادي الكولونيالي، جنباً إلى جنب مع تاريخ الديموقراطية والتضامن. ويتجسَّد التاريخ المادي لهذا التاريخ المقموع في عودة سكان ما بعد الكولونيالية إلى الحواضر الكبرى، وحضورهم الطاغي هذا غيَّرَ من سياسة الحواضر الكبرى وأيديولوجيتها الثقافية وتقاليدها الفكرية لأنهم - وهم الناس الذين استوعبوا التجربة الثقافية الكولونيالية - أزاحوا بعض السرديات المدنيَّة الكبرى الخاصة بالتقدُّم، القانون والنظام. وساءلوا سلطة هذه السرديات وأصالتها. النقطة الأخرى التي أحاول توضيحها هي أن الكولونيالية ليست تاريخ الغرب فحسب، بل هي التاريخ الرديف لتاريخ الغرب المحلِّي التقليدي.
تقول فكرة المجاز المهاجر التي ناقشتُها آنفاً - وبمساعدة فكرة التناظر - إنه لا يمكن إدراك تواريخ التقدُّم والمدنيَّة الغربية بمعزل عن الجذور الكولونيالية العنيفة للمثاليات التي تأسَّست عليها المدنيَّة ومثيولوجيا الحضارة. وتقترح - عملياً على أرض الواقع - أن تتمَّ مساءلة لغة الحقوق والواجبات، التي تحتل مركز القلب في خطاب المواطنة الحديث، على أساس التفرقة القانونية الشاذة والأوضاع الثقافية التي يعيش فيها السكان المهاجرون واللاجئون الذين وجدوا أنفسهم، ولا بُدَّ، على الجانب الآخر من القانون.
بكلمات أخرى، إنَّ وجهة النظر ما بعد الكولونيالية تدفعنا إلى إعادة التفكير في التحديدات العميقة للمعنى الليبيرالي التواطؤي الإجماعي للمجتمع. هي تُشدِّد، من خلال المجاز المهاجر، على أن الهُويَّة الثقافية والسياسية لا يمكن بناؤها إلاَّ من خلال عملية (المُغايرة)، وأن زمن دمج الأقليات في المجتمعات العُضوية المتجانسة قد ولَّى. نحتاج إلى إعادة التفكير في المجتمع الثقافي من وجهة نظر ما بعد كولونيالية ومقارنة التحوُّل العميق في لغة الجنسانية والذات بأثر من الحركة النسوية في السبعينيات ومُجتمعات المِثْليين في الثمانينيات.
إن مزاعم المدنيَّة الغربية - بحسٍّ تاريخي عالمي - تَعَامتْ عن كل ذلك، لتواصل في تأكيدها على أن القيم الثقافية التي تؤمن بها الأصولية ما هي إلاَّ جزء من تاريخ ماضٍ تتمُّ معرفته، فهمه وموضعته من خلال فضاء وإطار عمل العقلانية والتاريخانية الغربيتَين. لكن تصاعد النقد الذي تقدِّمه السياسات الخضراء وتحدِّي الإسلام الراديكالي يُناقض هذه المزاعم بشكل قاطع، وإن كان بطُرُق مختلفة. تبدو رهانات الأصولية عتيقة جداً، لكنها قد وُضعت اليوم كجزء من نظام سياسي ثقافي معاصر جداً. لقد أخذتُ على عاتقي مسؤولية توضيح أن نمط اللامقايسة والخصومة هو ما تسعى إلى تطويره أفكاري عن الاختلاف الثقافي.
دور المثقف الملتزم
أودُّ أن أختم هذا الحوار بالعودة إلى السياسة، خصوصاً مسألة دور المُثقفين، فهلاَّ توسَّعتَ في تعليقك على مكان المُثقف المُلتزم وزمانه؟
- هو تعليق أوردته في أحد مقالاتي، حاولت أن أقول من خلاله إن على المثقفين الملتزمين مسؤولية مزدوجة؛ عليهم أن يتدخَّلوا في صراعات معيَّنة بمواقف مُحدَّدة من التفاوض السياسي، لكن هذا لا يعني أن هناك طريقة للتدخُّل المباشر لتغيير موضوع المعرفة نفسها، بإعادة صوغ مفهوم المجتمع على مقاس رهانات معيّنة صُمِّمت خصيصاً له. إذاً، اقترحتُ نوعَين من أشكال النشاط الممكن. كنتُ أهاجم الفكرة السائدة بين الناس والتي مفادها: أنه إذا لم تُترجَم الأفكار النظرية مباشرةً إلى فعل سياسي، فستصبح بلا قيمة. طبعاً، الكلمة التي سنركِّز عليها هنا هي «مباشرةً» لأن الناس كعادتهم سيقولون: طيِّب، كيف سأستفيد من هذا؟ إذا كنت تريد أن تُفصِح عن موقع نظري مُحدَّد، فسيكون السؤال التالي في هذه الحالة هو: كيف ستُفسِّر إضراب عُمَّال المناجم؟ أو كيف ستفسِّر اضطرابات مواصلات لندن؟ أنا الآن، لا أؤمن بأن هذه الأسئلة تَصلح كاختبار لمدى التصاق الموقع النظري بالسياسة، لأن من الممكن جداً أن نقترح تعايش نوعَين من النشاط قادرَين على إعادة تعريف أكبر المفاهيم السياسية وأكثرها حرجاً.
هذا تدخُّلٌ في الفضاء الثالث إذاً؟
- نعم. هو تدخُّل في الفضاء الثالث. فمثلاً إذا بدأت بالنظر إلى ما يحدث اليوم في أوروبا الشرقية، فستلاحظ أن الناس هناك يقومون بإعادة تعريف، ليس فقط عناصر السياسة الاشتراكية، بل أيضاً الأسئلة الكبرى المتعلِّقة بالطبيعة الكُلِّية لمجتمعهم الداخل في عملية انتقال من: الدولة الشيوعية، العالم الثاني، إطار الستار الحديدي للوجود. يبدو أن الاشتراكية في الشرق أو الغرب قد توصَّلت إلى حقيقة أنه لا يمكن التعامل مع الناس ككُتل، كجُموع غير متمايزة تؤلف طبقة أو عرقاً أو نوعاً أو أمَّة. إن مفهوم الناس ليس هو بالمُعطى الجوهري، المُحدَّد طبقياً المُوحَّد والمتجانس الذي يُشكل المجتمع، كما تراه السياسة، بل هو عبارة عن عملية تَجلٍّ سياسي وتفاوض سياسي على طول خط المواقع الاجتماعية المتناقضة. يوجد الناس دائماً كشكل لتعريفات متعدِّدة بانتظار أن يُخلَقوا ويَنبنُوا. هذا النوع من السياسات الذي يُفصح عن دوائر الأقليات من خلال المواقع الاجتماعية الطِّباقية المخالفة، لا يُنتج وجهة النظر الطليعية؛ «القيادة من الأمام». إذا أخذتَ بفكرة أن بناء الناس يتمُّ من خلال الهُجنة والاختلاف الثقافي، كما اقترحتُ أعلاه، فستتجنَّب بذلك التقسيم التبسيطي بين الحاكم والمحكوم. عندما تصف سلطة استبدادية (التاتشرية مثلاً) بأنها كتلة متجانسة، مستنداً إلى ذلك النوع من الثنائية، فسيكون وصفك هذا انعكاس غير دقيق لما يحدث في العالم. إذا كان لديك بدلاً من ذلك، النموذج الذي يؤكِّد على الطبيعة المُراوغة لتلك العلاقة والذي يفهم الذاتية السياسية باعتبارها متعدِّدة الأبعاد ويتمُّ تعريفها عبر الصراع، فستصبح التاتشرية عندئذ اسماً لعدد من الدوائر الاجتماعية المُفصح عنها، بدءاً بالطبقة العاملة وتشكيلات البرجوازية المُترفة وانتهاءً بالتراتبيات الاجتماعية المُحافظة وعالم التجارة والصناعة. سترى أيضاً، كيف أنه لم يتم الإفصاح عن هذه الإرادة العامة؛ هذه الكتلة الاجتماعية.
ما نراه الآن ليس عقلانية سياسية في العمل، بل هو «اللاوعي السياسي» والتمثيل الرمزي لما ستصبح عليه بريطانيا العظمى بعد عِقد من حُكم المُحافظين: بلاد صغيرة يُعاني اقتصادها من المشاكل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.