منذ منتصف عشرينيات القرن الماضي حتى الآن، برزت مجموعة كبيرة من الدراسات والأبحاث النقدية والمعرفية في النصوص الدينية الإسلامية والتراثية المقدسة، وتوارد هذه الدراسات كان أشبه بموجات تعرضت في معظمها لنكسات من المتلقين أو السلطات السياسية أو الرقابة الاجتماعية والدينية وبإزاء هذا عاش أهل الفكر نوعاً من الشقاء الثقافي في محيط تلفه الظلمات. لا ضرر في القول إن الثقافة العربية (الفكرية تحديداً) في القرن العشرين يخيم عليها الشقاء بسبب العجز في تجاوز الجدران التي وضعتها السلطات الدينية والاجتماعية والسياسية، بدءاً بكتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق. صدر هذا الكتاب عام 1925 بعد إلغاء الخلافة العثمانية وتفككها غداة الحرب العالمية الأولى، في وقت كان يتنازع فيه بعض ملوك العرب على لقب خليفة المسلمين، المؤلف هو أحد خريجي الأزهر وعند صدور كتابه ظهرت ضجة بسبب أرائه حول موقف الإسلام من الخلافة، وإثباته بصحيح الدين على عدم وجود دليل على شكل معين للدولة في الإسلام، وأن للمسلمين الحق في بناء «قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية وأمتن ما دلَّت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم»... ما يعني أن الإسلام لم يفرض على المسلمين نظاماً سياسياً معيناً، بل جعل لهم الحق في اختيار نظامهم وحكومتهم، وهذا هو المعنى الصحيح لقول الرسول للمسلمين «أنتم أعلم بشؤون دنياكم». لا أحد من المتعصبين دينياً يحب أن يقرأ كتاب الرازق، فجلّ ما يقول المتعصب دينياً إننا نعيش في مرحلة جبرية وسيأتي يوم يحكم فيه العادلون بالسيف، كلهم في انتظار المخلص، الغيب المستقبلي يحكم الحاضر، بل الغيب الآخروي يحكم كل شيء، وعلى هذا تصبح المعرفة باطلة وممنوعة في عرف رواد الانتظار. كانت الحرب على كتاب علي عبد الرازق أولى بوادر الحرب على الثقافة الليبرالية وثقافة الحرية في القرن العشرين، ولم تكن الأخيرة، فحين أصدر طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» قامت الدنيا ولم تقعد. تنطوي المعركة التي فجرها كتاب «في الشعر الجاهلي» عام 1926 على مفارقة كبيرة. فمن ينسبون أنفسهم إلى أهل القلم، ومن كان يفترض بهم بالتالي أن يكونوا المدافعين عن حرية هذا القلم، هم الذين تعالى صراخهم للمطالبة بمصادرة هذا الكتاب، وهم الذين انبروا يكتبون مئات المقالات ونحواً من 13 كتاباً في الرد على مؤلفه. في المقابل، رجل من رجال القضاء الذين أرادوا استنفار آلتهم ضد من عُرف لاحقاً بعميد الأدب العربي، هو مَن تولى تفنيد دعاواهم، وهو مَن ضرب مثالاً غير مسبوق على الانتصار لمبدأ الحرية في البحث العلمي والتاريخي، وهو من برّأ ذمة طه حسين وصفحته من كل ما نسبوه إليه من تعدٍّ على الدين وحرمة التراث الإسلامي. لا ندري ماذا كان سيحدث لو أصدر الكاتب العراقي معروف الرصافي كتابه «الشخصية المحمدية» الذي كتبه في بداية الثلاثينيات ولم يصدر إلا بعد نحو سبعين عاماً (في بداية الألفية الثالثة). كان الرصافي يدرك ما سيحدثه كتابه، لذا تركه مخطوطة في أدراك المكتبات، وحصل أن نشرته دار الجمل قبل سنوات، وأحدث ضجة كبيرة ولكن... وإذ كانت الخمسينيات والستينيات شهدتا موجة صعود الإيديولوجيا الناصرية التي طغت على كل ما عداها، ففي نهاية الستينيات كان لبنان على موعد مع محاكمة المفكر السوري صادق جلال العظم بسبب كتابه «نقد الفكر الديني». شكَّل هذا الكتاب فضيحة للثقافة اللبنانية، ليس بسبب جوهره بل بسبب محاكمة صاحبه في عاصمة الحرية، فهو طرح على بساط البحث المسائل الجوهرية في الثقافة العربية. صودر الكتاب بإيعاز من المراجع الدينية، ولم تنجح التعبئة التي أعقبت هذا الإجراء في رفع الحظر عنه، لكنها أرغمت على الأقل الرقابة السياسية على التراجع. القاسم المشترك الواضح بين الكتب المذكورة هو الشقاء في التلقي، فما زال العالم العربي يعيش في خضم مجتمعات الشقاء وسياسات الشقاء، لا أحد يتحمل بحثاً علمياً يبين الوقائع والحقائق، وثمة ميل واضح نحو الثقافية الغيبية الغامضة والملتبسة، ربما لأن الوجود نفسه فيه من الغموض ما يجعل المرء يفكر كثيراً بالحياة الآخرة. أحدثت أفكار علي عبد الرازق وطه حسين صدمة، لكن المجتمعات امتصتها ولم تأخذها في الاعتبار، والأمر نفسه في أفكار مجموعة كبيرة من المفكرين الذين اجتهدوا في تقديم دراسات قائمة على الحفري المعرفي في براثن النصوص الإسلامية المقدسة، من بين هذه الأسماء سيد القمني (اتهم بالإساءة الى الدين في مصر)، خليل عبد الكريم ونصر حامد أبو زيد (تعرض للنفي من القاهرة إلى أوروبا)، فرج فودة (اغتيل في مصر)، محمد أركون، محمد عابد الجابري، صادق جلال العظم (حوكم في بيروت)، عزيز العظمة، محمد شحرورن الصادق النهيوم (منعت كتبه في بيروت)، خالد أبو خالد (حرقت كتبه)، جورج طرابيشي، فتحي بن سلامة، رجاء بن سلامة، هشام جعيد، جمال شحيد، العفيف الأخضر (منع من الكتابة في الصحف)... والكثير الكثير من الأسماء. من الأجانب أيضاً، تيودور نولدكه صاحب كتاب «تاريخ القرآن» وكريستوف لوكسينبرغ، وهو اسم مستعار لكاتب من أصل سوري كانت أبحاثه محور نقاش في كتاب «القرآن في محيطه التاريخي» من إعداد جبرائيل سعيد رينولدز، والإيراني نفيد كرماني صاحب كتاب «بلاغة النور»... مع طوفان الإنترنت، برز بعض المواقع الإلكترونية التي تعطي هامشاً أكبر للحرية والنشر كمواقع «الآوان» و»اللادينيون العرب» و{الحوار المتمدن»، فقدمت دراسات كثيرة وغنية بالحرية، ومهما يكن من أمرها فهي هامشية مقارنة بالأصوليات. على رغم الجهد الفكري والنظري والحفريات المعرفية، يبقى الاهتمام الشعبي بهذه الدراسات أقلوياً ونخبوياً، بل يمكن القول إن «الجماهير» في البلدان العربية والإسلامية كانت متأسلمة قبل الأوان، امتصت الأفكار العقلانية كافة وهمشتها لمصلحة الهذيانات الغيبية. بل إن الأفكار العقلانية التي نحبها لم تقدم إجابات مقنعة في أمور الحياة تجعل المواطن العادي يقتنع بها، والأمر يتعلق بأسئلة الوجود كلها وليس بأنظمة الحكم وشكل الدولة والعدالة. والملاحظ أن الجمهور المتأسلم يميل أكثر نحو التطرف والمغالاة في الأمور الغيبية، فتصبح الكتب «الأخوانية» الأكثر مبيعاً، وكذا الأمر في الكتب «السلفية»، ويصبح نجم الجماهير هذا الداعية أو ذلك الشيخ، بالتالي يكون الناتج من كل شيء هو شقاء الجمهور وشقاء المفكرين الذين يجهدون في تقديم أفكار من دون جدوى مهما كان جوهرها، فهي تصطدم في عدم تقبلها من المتلقين، ربما لأن شبح الغيب أقوى من كل شيء. حين أنهى الرصافي تدوين كتابه «الشخصية المحمدية» في 5 يوليو 1933، كتب رسالة يقول فيها: «أصبحت لا أقيم للتاريخ وزناً ولا أحسب له حساباً لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال... ولئن ارضيت الحقيقة بما أكتبه له لقد اسخطت الناس عليّ، ولكن لا يضرني سخطهم إذا أنا أرضيتها، كما لا ينفعهم رضاها إذا كانت على أبصارهم غشاوة من سخطهم عليّ، وعلى قلوبهم أكنه من بغضهم علي». الأرجح أن الجماعات المتأسلمة لا تقيم وزناً لا للتاريخ ولا للحاضر ولا للأفكار ولا للحقيقة، كل همها هو المغالاة في الأفكار الغيبية، وإذا كان صادق جلال العظم لاحظ في أحد الأيام من خلال متابعته الردود على رواية «آيات شيطانية} لسلمان رشدي، أن معظم الكتاب العرب الذين هاجموا رشدي لم يقرأوا روايته، فالأمر نفسه ينطبق على الجماهير التي تبدو غير معنية بالأفكار العقلانية كافة. الشقاء ليس صفة المفكرين وحدهم بل صفة المجتمعات أيضاً، المجتمعات التي ما زالت تبحث عن بديل عن واقعها ولكن لم تجده وربما لن تجده. القدس العربي