يعد المؤتمر الصحفي, لوزير الدفاع, نقلة جديدة في تمليك المعلومة للجماهير, وخاصة للصحافيين والنخب السودانية, لكي يوسع من دائرة الحوار والمشاركة, حول كيفية التعامل مع دولة الجنوب, والتفاوض في القضايا المختلف عليها, وكما قال وزير الدفاع « إننا نقلنا لكم معلومات أكثر مما يجب « وإذا كانت السلطة منذ « اتفاقية نيفاشا « بهذه الصراحة مع المواطنين والنخب السودانية, كانت قد تجاوزت الكثير من العقبات والتحديات, ولكنها للأسف اعتقدت أنها وحدها الصفوة, القادرة على حل مشاكل السودان, لذلك تجاوزت الآخرين, مما أدى إلى توسيع دائرة التحديات الخارجية, ولا ننسى, أن القيادات الجنوبية كانت جزءا من واقع السودان, وتعرف كيف يفكر أهله, وأيضا تعرف مشاكله الداخلية والخارجية, ومن خلال معرفتها بواقع السودان, تبني إستراتيجيتها التفاوضية, معتمدة على نقطتين مهمتين, الأولى الخلافات السياسية داخل السودان, والخلافات ليست داخلية فقط أنما امتدت للخارج من خلال الوجود الكثيف للسودانيين في دول المهجر, خاصة في الغرب والولايات المتحدة, وهؤلاء رصيد ضد سلطة الإنقاذ, ويمكن استخدامهم في أن تتخذ دولهم الجديدة موقفا من السلطة في السودان. النقطة الثانية كما قال الأستاذ حسين خوجلي, الاستمرار في عداء السودان بهدف توحيد جبهتهم الداخلية. في هذا المقال, سوف أتطرق لأربع نقاط, اعتقد أنها تمثل حجر الزاوية, في قضية التفاوض مع دولة جنوب السودان, وهي التي تمثل كعب أخيل لوفد التفاوض السوداني, وكتبت في ذلك كثيرا, بحكم قراءة الذهنية الجنوبية وفهمها لواقع السودان, وفي نفس الوقت قراءة للنخبة في المؤتمر الوطني, والتي تتعامل مع القضايا الوطنية بخطابين, الأمر الذي يخلق نوع من التشويش ليس للعقلية الجنوبية, أنما لنخب السودانية نفسها, وتنعكس تلقائيا على المفاوض السوداني. ومن خلال هذا الفهم, سوف أتناول أربع نقاط. النقطة الأولى الإستراتيجية التفاوضية التي يعتمد عليها الوفد السوداني. القضية الثانية الفهم السائد «A widespread conception « وهذا الفهم تراهن عليه دولة الجنوب, ولكنه يمثل حقيقة على الأرض, وهنا يطرح سؤال هل الصراع والخلاف مع دولة الجنوب, هو صراعا وطنيا, ويجب أن يأخذ هذا المنحي, أم أنه صراعا مع حزب المؤتمر الوطني, ويجب أن تنقسم عليه الجبهة الداخلية في السودان؟ النقطة الثالثة البعد الأجنبي في الصراع وكيفية التعامل معه؟ القضية الأخيرة لماذا تراهن النخبة الجنوبية المفاوضة, على قضية التحكيم الدولي بدلا عن التفاوض؟ وفي الختام سوف أقدم عددا من المقترحات. قبل أن أدخل في التعليق على النقاط الاربع, والمقترحات, استوقفتني مقولتين, الأولى للسيد وزير الدفاع, يطالب فيها أن تتوسع دائرة المشاركة من قبل مراكز الدراسات والنخب السودانية, في تناولها للقضية, من واقع تحليلها للمعلومات المقدمة, وهذه تعد واحدة من مشروع لتفكير جديد, عكس ما هو سائد لكي يعطي القضية بعدها الوطني, القضية الثانية مقولة الناطق الرسمي للقوات المسلحة, في ختام اللقاء الصحفي, والتي كانت موجهة للصحافيين والإعلاميين, قال « إن لا يتعاملوا مع المؤتمر الصحافي كخبر أو حدث ينتهي بانتهاء المؤتمر أنما يحاولون قراءة المؤتمر من خلال واقع جديد يهدف في تقديم الاستشارات والمعونات التي يتطلبها وفد التفاوض بل على الصحافة أن تخلق حوارا وطنيا داعما» والمقولتان تعبران عن الحس الوطني عند صاحبيها, وهي انعكاس حقيقي لتربية المؤسسة القومية, والغريب في الأمر, إن دعوة المشاركة تجيء من أفراد ينتمون للقوات المسلحة, بينما تجد معارضة حقيقية من القيادات السياسية التابعة للمؤتمر الوطني, الأمر الذي أدى إلى ألاعتقاد عند العديد من النخب, إن هذه معركة المؤتمر الوطني, وعليه أن يتحمل نتائجها, وهذا الفهم والابتعاد هو الذي أدى لانفصال الجنوب. القضية الأولى:- ما هي الإستراتيجية التي يعتمد عليها وفد التفاوض؟ عندما طرح هذا السؤال, حاول السيد وزير الداخلية أن يبرر إن هناك إستراتيجية, وقال في حديثه « إن الإستراتيجية ما هي إلا نوع من الافتراضات, والتفاوض نفسه يقوم على الافتراضات...! « هذا فهم غريب للعمل الإستراتيجي. صحيح إن الإستراتيجية تقوم على افتراضات, ولكنها افتراضات تقوم على الواقع, المبني على المصالح الوطنية, وليست افتراضات متخيلة, وبالتالي الإستراتيجية تحرك كل الإمكانات والوسائل والقدرات المتاحة, لكي تعطي البعد القومي للمسألة, وعلي هذا الفهم. الإستراتيجية لا تقوم فقط على تحقيق الأهداف, وأيضا تقوم على دراسة للجانب الأخر, ونقاط القوة والضعف فيه. ولكن السيد وزير الدفاع, أكد ليس هناك إستراتيجية واضحة, بقدر أنهم يعملون من أجل أن تكون هناك علاقات طبيعية مع دولة جنوب السودان, من أجل مصلحة الشعبين. هذه الصراحة المعهودة في حديث الفريق عبد الرحيم محمد حسين, هي التي تفتح الباب من أجل المشاركة الفاعلة, من قيل النخب السودانية, ومراكز الدراسات السودانية, في المساهمة بالرأي, وتقديم المشورة, والاعتراف يقرب المسافات في الحوار, لأنه يعكس حقيقية الواقع, وإن قضية بناء إستراتيجية تفاوضية, مسألة ضرورية, لأنها هي التي تعطي الوفد التفاوضي, قدرة على التكتيك, وإدارة الأزمة,على أسس معروفة, وسوف أقدم عليها مقترحات في ختام المقال. القضية الثانية:- الفهم السائد, الذي تراهن عليه دولة الجنوب. إن القيادات الجنوبية حتى الآن, يعتقدون أنهم جزء من دولة السودان, ويجب أن يشاركوا في إسقاط النظام, وهذا الفهم يجعلهم مترددين في حل القضايا, وبعض من القيادات الجنوبية يعتقدون, أنهم إذا وصلوا إلى حل مع الإنقاذ, يكونوا قد خانوا حلفائهم, وبالتالي يجب أن يكون سقوط النظام قبل أيجاد الحل بين الدولتين, لذلك تشعر القيادات الجنوبية, أنها جزء من المعركة ضد النظام في داخل السودان, هذا السلوك يسمح لهم استخدام الجاليات السودانية في الغرب والولايات المتحدة, في أجندة تدعم المفاوض الجنوبي, لأنها تحدث قطيعة بين السلطة الحاكمة, والمجتمع الغربي والولايات المتحدة, في الوقت الذي لم تلتفت الخرطوم لدور جالياتها في الخارج, والتي أصبحت مؤثرة في الدول التي تقيم فيها, وسوف نتعرض لها أيضا في المقترحات. و في ذات الموضوع, تحاول أن تسوق دولة الجنوب, إن صراعها مع المؤتمر الوطني, وليس مع الشعب السوداني, رغم أنها تقدم مطالب ضد مصالح الشعب السوداني, وبالتالي في الخارج معروف إن هذه معركة المؤتمر الوطني, وليست معركة الشعب السوداني, الذي يعارض ويرفض النظام القائم, وتساعدهم في ذلك قيادات المؤتمر الوطني, الذين يصرون أن يعطوا القضية بعدها الحزبي, وليس القومي, وهم بسلوكهم هذا وخطابهم الذي بدون وعي, يدعمون مقولات القيادات الجنوبية, ويسهلون في ترويجها. القضية الثالثة:- البعد الأجنبي في الصراع بين دولتي السودان. هذا البعد تعتمد عليه دولة الجنوب, باعتبار إن الخرطوم تواجه مشاكل في علاقاتها مع الغرب والولايات المتحدة, ومعالجة هذا البعد يعتمد على توحيد الجبهة الداخلية, وإن تعطي السلطة في الخرطوم البعد القومي للمشكلة, وأن تحاول أن تستفيد من الوجود الكثيف للسودانيين في الخارج, باعتبار إن لديهم القدرة الفعلية للالتقاء مع صناع القرار في تلك الدول, لكي تكون لتلك الدول على الحياد في الخلاف بين الدولتين. القضية الرابعة والأخيرة:- لماذا تراهن القيادات الجنوبية على التحكيم الدولي, وليس على التفاوض؟ أولا أن دولة الجنوب, ما تزال دولة لم تكتمل فيها شروط الأمة, وإن القبلية هي المرجعية الأساسية في كل شيء, والقضايا الخلافية على الحدود مع دولة السودان, خلافات على مناطق تعيش عليها قبائل مختلفة من دولة جنوب السودان, وقضية التفاوض على الحدود, تعد بمثابة قنابل موقوتة, وعدم كسب كل مناطق التفاوض المختلف عليها لصالح دولة جنوب السودان, يعني خلق حساسيات قبلية, تتهم فيها السلطة الجنوبية, بأنها فرطت في منطقة قبلية, الأمر الذي يقود إلى معارك قبلية داخلية, لذلك تحاول القيادات الجنوبية, أن تخلي مسؤولياتها, في أن تجعل التحكيم الدولي, هو الذي يقرر, لكي تخلي عن كاهلها هذه المسؤولية. مقترحات من أجل أن تعطي قضية التفاوض بعدها الوطني, ونزع ثوب الحزبية عنها, ثم فتح باب المشاركة الفاعلة من قبل المؤسسات والنخب السودانية. أولا:- لكي تعطي القضية بعدها الوطني, أقترح إن يشكل السيد رئيس الجمهورية مجلسا قوميا, مهمة المجلس حل النزاع والخلاف مع دولة جنوب السودان, على أن يضع المجلس القومي الإستراتيجية الوطنية, التي يعتمد عليها المفاوض السوداني, على أن يتكون المجلس من جميع رؤساء الأحزاب المسجلة في السودان, برئاسة رئيس الجمهورية, لكي يعطي القضية بعدها الوطني, وهذا المجلس, يستطيع تحريك كل الجاليات السودانية في الخارج, من أجل دعم قضية التفاوض, كل في منطقته, الأمر الذي يؤكد للعالم أن وفد التفاوض السوداني, لا يمثل حزب المؤتمر الوطني فقط, أنما يمثل كل الأمة السودانية, على مختلف توجهاتها السياسية, وبالتالي يسحب البساط من تحت أقدام دولة الجنوب, خاصة في استخدام بعض الجاليات, أو العناصر لدعم أجندتها, والاستفادة من حالة الشقاق الوطني على الساحة السودانية. ثانيا:- تفعيل مستشارية الأمن القومي, والتي كان يرأسها الفريق صلاح عبد الله قوش, ويديرها حاليا اللواء الوسيلة, هذه المستشارية باعتبارها تابعة لرئاسة الجمهورية, تستطيع أن تقدم برامج تفعل فيها مراكز الدراسات والبحوث داخل السودان, للمساهمة في قضية التفاوض, ومواجهة التحديات الخارجية, وأيضا تستطيع أن تجذب أغلبية العناصر السودانية, القادرة على عملية الإسهام في دعم الوفد التفاوضي, من خلال تقديم البحوث والدراسات, وقيام ورش عمل متواصلة للخبراء السودانيين, في القضايا المثارة في التفاوض. وهذا الحوار, والذي سوف تقيمه المستشارية, سوف يخلق الأرضية الوطنية الفاعلة, والتي تحتاج إليها البلاد في هذه الفترة. والمستشارية, أيضا تستطيع أن تتصل بالمؤسسات الوطنية, والأهلية السودانية, لكي تقدم ما لديها من تصورات, ومعلومات, وتدعم موقف الوفد المفاوض, بعد أن تقدمه للمجلس القومي, الذي من المفترض أن يتابع ويشرف على العملية التفاوضية. ثالثا:- مثل هذا العمل الجماعي, يخلق الأرضية الوطنية المطلوبة, لمواجهة التحديات الخارجية, وفي ذات الوقت يفصل العمل بين الصراع الداخلي, من أجل السلطة, ومواجهة التحديات الخارجية, بحس وطني, لخلق وحدة الجبهة الداخلية. وأيضا العمل الجماعي الذي يخلق عملية المقاربات, بين القوى السياسية, ويقرب المفاهيم من خلال الحوار. هذا التوجه هو الذي يقلل العدائيات ضد السودان في الخارج, وفي نفس الوقت تقتنع دولة الجنوب وأنها لا تستطيع أن تستفيد من حالة الشقاق في السودان, وليس أمامها غير الوصول لحلول في الخلافات, لأنها لا تستطيع أن أيضا أن تحدث خلافات داخل السودان, وتوظفه لمصلحتها. رابعا:- أن مثل هذا العمل الجماعي, والذي يخلق القاعدة الأساسية للوحدة الوطنية, ويضع لبنات التربية الوطنية المطلوبة, هو الذي يؤسس لقيام الإستراتيجية, التي يجب أن تتبع من قبل وفد التفاوض المعين أو أية وفد يتم أختياره في المستقبل, لآن من أهم مقومات العمل الإستراتيجي, هو تسخير وفاعلية كل الإمكانيات والوسائل المتاحة, لتحقيق الأهداف المرجوة. والعمل الجماعي يشكل المادة الأساسية للعمل الإعلامي, الذي هو أيضا ينطلق من الإستراتيجية القومية, وليس إعلاما موجها إلى الداخل, بل إعلاما موجها أيضا للخارج, ويستهدف العناصر المؤثرة في صناعة الرأي العام, وصناع القرار في لمجتمع المستهدف, من الرسالة الإعلامية. أيضا هناك قضية مهمة جدا, وهي إن السودان لم تستفد حتى الآن, في كسب المواطن الجنوبي لجانب معركته مع النخبة الجنوبية القائد لعملية التفاوض, وتجعله يضغط من أجل الوصول إلى اتفاق سلام مع السودان, باعتبار أن دولة الجنوب معتمدة في سياستها, أن تكون هي في موقف الهجوم, والانتقال من قضية إلى أخرى دون تكملة إلي أية منها, بهدف التشويش على المفاوض السوداني, وإحداث بلبلة في ذهنية القائمين بالتفاوض, هذه الإستراتيجية تجعل الوفد السوداني يلهث وراء الأحداث, في الوقت الذي هي تستخدم كل الأدوات المتوفرة لها, مع الاستفادة من بعض خبراء الأزمات في إدارة الصراع, وكيفية تنفيذ حرب نفسية تجعل المفاوض السوداني في حالة تذمر, هذه نفسها, تحتاج من الجانب السوداني, بناء إستراتيجية تفاوضية, يستخدم فيها كل الوسائل من أجل كسب المجتمع العالمي, والإقليمي, وأيضا المواطن الجنوبي. الغريب في الأمر, رغم معرفتنا بكل مكونات الشخصية الجنوبية, وثقافتها إلا أننا لم نستخدم ذلك في معركتنا الإعلامية, وحتى إعلامنا فشل في إدارة المعركة ونقل الصراع داخل المجتمع الجنوبي, رغم أننا نمتلك الوسائل ومعرفة الثقافة الجنوبية والأشياء المؤثرة فيها. إن المؤتمر الصحفي, الذي عقده السيد وزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين, يعد خطوة مهمة جدا في الطريق الصحيح, لأنه قدم لغة جديدة, وتصور جديد للعملية التفاوضية, عندما حث الحضور في المؤتمر, بالمساهمة في بناء الإستراتيجية التفاوضية, وهي دعوة تحمل مضامين جديدة, ولم تقدم مثل هذه الدعوة من قبل, حيث كانت نخبة المؤتمر الوطني, تعتقد أنها وحدها المعنية بقضية التفاوض, وحل المشاكل التي تواجه البلاد, رغم أنها قد فشلت تماما في إدارة معاركها, منذ محادثات نيفاشا, والتي كانت سببا في انفصال الجنوب, وما تزال تبعاتها تلاحق السودان, حتى اليوم, ثم كانت تصر نخبة المؤتمر على ذلك, ليس فقط في الخلاف مع دولة الجنوب, حتى في قضية دارفور, هذا الإصرار, خلق تأثيرات جانبية سالبة, حيث دعم مقولة إن هذه معارك المؤتمر الوطني, وبالتالي يجب أن يخوضها ويتحمل مسؤوليتها, وأصبحت القوى السياسية تتفرج, بل بدأ الفهم لسلوك نخبة المؤتمر يشكك في المقومات الوطنية, والتي كان يجب أن يحترمها الجميع. إذاً دعوة الفريق عبد الرحيم, جاءت لتكسر حاجز الحزبية, وتعطي الموضوع بعده الوطني, وأتمنى ألا تكون دعوة «مراكبية» ونسأل الله التوفيق.