في ذلك الوقت السحيق.. كان النهر حوض ماء راكد.. لاأكثر، وكانت الشمس قبلة تطبعها الأم على جبين الطفل، وكان النهار أكذوبة، أما الجسد فكان زغرودة عشق تستنشق هواء الرحم المترجم عبر كل اللغات. كانت كل الأشياء بلا أسماء تعرف بها، وكانت كل الأسماء بلا صفات تدل عليها، وكان لكل شيء دلالة تلتصق به بلاهوادة ، ولكل دلالة صورة ذهنية مدركة، لاتكون إلا بها ومعها على السواء. كان العشب مطراً من الكلوروفيل، وكان المطر حيضاً للغيم، يصب كيفما اتفق، بلا فصول أو زوابع.. فالمادة الخضراء المتفائلة.. ظلت أبعد مايكون عن الطحلب أو الخصوبة، كان النيل يغطي أرجاء البسيطة، وكانت الهيروغليفية تأتأة ضفدع يغني لأنثاه الشبقة، حينما تلعثمت الألسن بلا طائل، ضجراً من أن الأمانة لم تأت بعد، فلم يكن القدير قد خلق الخير والشر، ولاحتى الخطيئة، والبشر كانوا بلا أوراق توت تغطي عوراتهم، حتى ايفا براون.. لم تتصور وهي لم تزل في علم الغيب بظهر آدم، أن نهايتها سوف تكون بكل ذلك الكمال الانساني. كان الوقت طرياً، أقرب إلى الهلام منه إلى السيف، فالقبلات التي مافتئت تغطي خط الأفق، أوضحت بما لا يدعو مجالاً إلى اليقين، بأن الموت لما يحضر بعد.. وربما حتى لايكترث بالحضور، فالحضور عنده عدم لسواه، والوجود تناسخ أرواح أزهقت على حين غرة، وان يكن .. فذلك أمر يختبئ عن الأعين في زوايا أظلم من لحي شيوخ الملائكة، الذين ظلوا يرددون صلوات الرجم والعفو، كل على حدا، بأصوات وهمهمات دوزنت على شظايا الوعود الالهية.. والتعابير المتأفرقة عند صلاح أحمد ابراهيم، ذو الصبوات البلاغية المجنونة.. حتى قبل ميلاده.. بملايين المعلقات العشرية والسبعية والمنسية، وفي نهاية المطاف.. تلاشى أورفيوس، وتبعثرت قيثارته الى حكايات ترويها الجدات على مسامع الأطفال الذين لايبدون أي ندم على ما اقترفته أحلامهم، المكتظة باليوتوبيات البعيدة والقارات الأخلاقية التي فقدت في أعماق المحيط الحيوي. وفجأة وبلا أي وفود مقدمة، جاء الشرير، وكان الفصل خريفاً، لم يدعه أحد، لكنه جاء، ولم يكن بينه وبين الخلائق بغضاء أو عداوة.. ولم يقل لهم أي الأعمال أحب اليه، وأي الطقوس تخفيه عن الأعين والبصيرة، ولم يذكر أحد منا أكان حضوره قبل رفضه السجود أم بعده، لكننا نذكر بوضوح أنه منذ مجيئه بدأت الشهوة بالظهور على سطح العقل الخرب، كانت أول ما كانت، حفنة من التراب، ثم نطفة، ثم جسداً أنثوياً ممتلئ القوام.. ثم ثوب بحر يغازل أمواج الشاطئ، مختالاً بلا تردد، ثم كسرة من الخبز تسد رمق الجوعي.. ثم كانت الروح سراً من الأسرار ثم تموجت وتخفت ولم يطلع على وجودها إلى من أذن له.. ثم تنازعت الروح والشهوة العرش، وكان الجسد حاضراً.. وحينما حار الانسان بينهما، أنبت القدير بداخل الانسان نبتة صغيرة، مدت جذورها الي ماوراء الأشياء، كانت أوراقها أفكاراً لايأتيها الشر الا من وراء حجاب، وكانت جذورها تنادي أروقة القلب، وتكتظ بالغرباء.. وكانت ثمارها كتلة من المشاعر والأحاسيس، ومن ظلال هذه النبتة، رويت الأرض بماء الحياة.. حينها اجتمعت الخليقة وسمت الشجرة ضميراً. ظل الضمير قرباناً يذبح على عتبات المعابد المعتمة، في طقوس مبهمة، مخلفاً وراءه خيطاً من الدم القاني، الذي يسير بلا وجهة في كل أرجاء القرية الكونية ويتقافز بين سماء وأخرى، لبرهة من الألم، مما يستفز الكواكب لتهبط في بطن المحيط اللانهائي للوجود، وكانت الخلائق عند خط الأفق ترقب مايجري بلا اكتراث حتى خوطبت الشمس الكسلي (اطلعي.. فقد سلخت الليل، وانبسطي على كل شيء ينبت زرعاً أو خطيئة، هلمي أيتها النائمة، استيقظي بأمري) عندها توارت الشمس خجلاً بموضع لاهو بالقرب ولاهو بالبعد. 25.5.12