{ زحام و صراخ ونحيب وعرق يتصبب رغم برودة الطقس، تقوده كتلة بشرية ضخمة وهى تزحف.. رجال ونساء وشباب وشيوخ وأطفال.. الكتلة تزحف ببطء لم تعهده قياسات السرعة من قبل.. حركة لا تفصلها عن السكون إلا ما يشبه المراوحة.. مضت ألف سنة بحساب الكتلة ولا شىء يلوح فى الأفق.. الزحام يحمل الواحد منهم بلا ساقين ويتقدم بلا خطوات.. الزحام رويدا رويدا يسيطر عليهم ويكاد يخنقهم وهو يسد عليهم طريق العودة، لا مفر غير التقدم بسرعة الزحام.. سقطت كل التصرفات الفردية، لا أحد يستطيع الالتفاتة وحده، الكتلة بكاملها هي التي تلتفت ويلتفت من بداخلها قسرا حينما تلتفت هي وهكذا هم، يصرخون صرخة واحدة حين تصرخ هي وتصعد أنفاسهم وتهبط من داخل نفس واحد يخرج من رئة الكتلة وينظرون من ثقب واحد ويلتقطون الأصوات بأذن واحدة.. { تتكثف كتلة الزحام وتكاد تطبق على بعضها البعض.. كل الأجساد سكنت جسدا واحدا هو جسد الكتلة والأرواح جميعها سكنت روح واحدة هي روح الكتلة والمشاعر على تباينها أنبتت مشاعر الكتلة وتواضعت المبادئ والأمال والأحلام على حلم واحد وأمل واحد ومبدأ واحد، هكذا توحدت إرادة الكتلة قسرا ورمت بخطواتها في موكب فريد يمضي بسرعة السكون.. { ثمة خيط رفيع، أوهن من خيط العنكبوت يتسلل الى داخل الكتلة وهو قد إنسرب إليها من خلفها إلى ذات المسافة التي قطعتها، يلملم أطرافها ويوثق رباطها.. يتصاعد زحام الكتلة ويشتد صراخها ونحيبها وتبطئ سيرها أكثر مما هي عليه من بطء، تستجمع أطرافها وتلملم قواها وتحبس أنفاسها، كأنها تنقطع تماما وفي لحظة ما تصرخ الكتلة صرختها الأخيرة في وجه اليأس، تتناثر أجساد وأرواح وآمال وأحلام الكتلة.. الأجساد تلتقط أرواحها وأمالها وأحلامها وتتحسس برودة الطقس.. كل جسد يتخلص من خيط رفيع علق بعنقه.. يتفحصه ثم يرميه على الأرض بعد أن أبصر فيه حياة الكتلة، فيسرع هاربا قبل أن ينهض الخيط ويستجمع أطرافه ويلاحق الأجساد من جديد وينسج بينها فيعيدها الي حياة الكتلة.. { الأجساد تتفرق وتبتعد منتشرة وهي تصوّب نظراتها نحو غايات وآفاق مختلفة، تحملها مشاعر وأحلام وأمال ومبادئ وأرواح.. تباعد الخطى في ما بينها وهي تمضي مبتعدة وقبل أن تقطع أشواطا في سيرها ترسل بصرها لشمس يوم جديد تسكنه حياة أخرى، تختلف حتى عن حياة ما قبل الكتلة التي قذفت بهم الى حياة الكتلة وأحكمت رباطها عليهم بخيط من اليأس، قبل أن يطلقوا صرختهم الأخيرة في وجه اليأس.. { الشمس تشرق تباعا علي كل جسد جاء يحمل روحه وحلمه وأمله ومبدأ يتوشح به.. كأنها شمس لن تغرب أبدا، تنتظر كل صاحب حلم وإرادة قوية يطلق صرخته في وجه اليأس والإحباط تحمله منطلقا نحو غاياته وهو يردد صدي عبارة سكنت دواخل الناجحين على مر التاريخ (لوتعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها) وهي تقر بالممكن وتضيّق على المستحيل.. { الحياة مليئة بالمحبطين ومليئة بظروف مشابهة تسهّل عليهم اصطياد آخرين الى صفوفهم وهكذا تنمو (كتل اليأس) وتطبق على كل شارد مهما سكنته القدرات وحالفته الحظوظ، ليبقوا عليه داخل كتلتهم يائسا وبائسا، يعيش حياتهم ويستسلم لخيطهم الرفيع وهو يلف رقابهم ويسد عليهم الطرقات.. فكم من باحث عن وظيفة اصطاده المحبطون فامتهن العطالة وعجز عن السير لخطوات، ربما كانت تنتظره عند الخطوة الأخيرة وظيفة يسيل لها اللعاب ويتمناها كل شاب، والروايات غير هذه كثيرة ومريرة تتنوع بتنوع كتل اليأس..