يتوالى سكب الأحبار وتسويد الصحائف في الحديث عن المشكل الاقتصادي السوداني في الفترة الأخيرة وأسبابه، وذلك في أعقاب قرار الدولة الأخير بإجبار الجنيه السوداني على التعري لبدء سباحة.. لا لكونه لا يقوى عليها فحسب، بل ولأنها أيضاً عكس التيار. وحسب المصطلح الاقتصادي تعني هذه السباحة (تعويمه)، تمهيداً لإعلان إعادة تقييمه أو تخفيضه "Devaluation" رسمياً بأكثر من (80%). وإذا ما تجرأ أحدٌ لحساب نسبة تخفيض الجنيه السوداني منذ بداية الإنقاذ، فقد لا تحتمل الآلة الحاسبة العادية استيعاب عدد أرقام هذه النسبة، ويمكن مقارنة ذلك وببساطة (1 دولار = 4.50 جنيه سوداني في 30/06/1989، واليوم 1 دولار = 5200 جنيه سوداني). والسعر الأخير بُدئ بتطبيقه أولاً في الصرافات، ليمتد فيما بعد وفي غضون أقل من شهر ليشمل المصارف التجارية، ليؤكد ذلك حالة التخبط في سياسات وخطط الدولة الاقتصادية.. ودعك من سعر الدولار في السوق الموازي (اسم الدلع للسوق الأسود) المرشح ليصل إلى نحو أو أكثر من 6000 جنيه خلال شهر يونبو الجاري، ليهنىء الشعب السوداني بذكرى ثورة الإنقاذ. والأمر سيكون أكثر سوءاً إذا ما تواصل مسلسل الفشل في الوصول لاتفاق في المحادثات القادمة بين دولة السودان ودولة جنوب السودان، لا سمح الله. حمّل الكثيرون "انفصال الجنوب وضياع (75%) من عائدات الدولة من البترول "أسباب الأزمة الحالية والتدهور المريع في سعر الجنيه السوداني". وفي تقديري أن هذا التحميل يبتسر الحقيقة، إذ أن انفصال الجنوب ووداع البترول لا يمثل سوى جزء يسير من التدهور أو الأزمة أو المشكل (اختر ما شئت، فكلها توصف الحالة) الاقتصادي الحالي، كما إنه فقط أزاح الغطاء عن سوء إدارة الاقتصاد وموارد الدولة، وانكشاف ذلك للشعب السوداني.. إذن ما هي الأسباب؟ في تقديري إن أسباب التدهور الحالي ليست وليدة الانفصال، وإنما نتيجة حتمية لفشل لازم الدولة في إدارة الملفين السياسي والاقتصادي طوال السنوات السابقة، والدليل على تصاعد سعر الصرف الجنيه مقابل الدولار (قفزه من 4.5 جنيه في بداية الإنقاذ إلى 2700 جنيه قبل قرار التعويم الأخير، ثم إلى 4900 – 5200 جنيه بعد القرار). وبما إن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، ألخص أهم هذه الأسباب في التالي: في الجانب السياسي: • الحرب الجهادية في الجنوب التي استمرت حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل، حملت الدولة مليارت الدولارات التي كان يمكن أن تضخ في قنوات التنمية المختلفة، إذا أُنهيت الحرب مبكراً ولم يكن هنالك إصرار بأن الحرب يمكن حسمها بالبندقية. • الحكم اللامركزي الذي اعتمد على الترضيات الجهوية والقبلية. • الانفراد بالسلطة والقرار، دون إفساح المجال للرأي الآخر. • أزمة دارفور وطول أمد حلها. • الفشل في جعل الوحدة جاذبة، وما انتهى إليه ذلك بفصل الجنوب. • الفشل في إدارة الأزمة بحكمه بعد الانفصال، ودليل ذلك الملفات العالقة (ترسيم الحدود، منطقة أبيي، الملف الاقتصادي، الملف الأمني ... إلخ)، وما انتهي إليه ذلك من اندلاع للحرب في جنوبي كردفان والنيل الأزرق. • جعل الولاء وليس الكفاءة معياراً للاختيار في المناصب الدستورية والتنفيذية، وفي الوظائف القيادية وحتى غير القيادية في كل مؤسسات الدولة، مما أشل الخدمة المدنية. في الجانب الاقتصادي: • سياسة التحرير غير المدروسة التي انتهجتها الدولة، وما نتج عنها من بيع لبعض مشاريع وشركات الدولة (الخصخصة) بأقل من قيمتها السوقية، والغريب أن بعضها "ساءت حالتها" بخلاف الهدف الرئيسي من الخصخصة. • عمدت الدولة وبإصرار إهمال القطاعات الإنتاجية الرئيسية (الزراعة والصناعة)، وبالتالي تناقصت عوائدها وحصيلتها من النقد الأجنبي، والمثال الصارخ ما حدث في مشروع الجزيرة، كأحد "الأصنام" المراد تحطيمها. • الصرف البذخي على هيكل الدولة المترهل في الحكومة المركزية والحكومات الولائية (من رواتب + بدلات + أسفار + سيارات فارهة (قد تكون أكثر من سيارة)، إتصالات غير محدودة (تشمل هواتف أفراد العائلة)، وقود (خزانات معبأة على الدوام). • الصرف الكبير على الأجهزة النظامية (أمن + جيش +شرطة) إذ مثل أكثر من 70% من موازنة الدولة تقريباً طوال عمر الإنقاذ. • عدم إخضاع تنفيذ المشاريع الرئيسية من بنية تحتية (طرق وسدود) ومشاريع خدمية (صحية، تعليمية، تقنية)... إلخ، وكذلك المشتروات الحكومية للإجراءات الرسمية في تقديم العطاءات وإرساء عقود التنفيذ، مما حمّل الدولة أضعاف أضعاف تكلفتها الأساسية. • القائمة الطويلة (تقاس بالأمتار لا بالكيلومترات كما يزعم البعض) من الشركات والمنظمات المعفاة من الجمارك والضرائب، هذه القائمة قد تزيد عدة أمتار إذا شملت الأفراد.. مثل بعض التجار المحسوبين على النظام، والسفراء العائدون بشكل نهائي إلى السودان.. مما أضاع على البلاد الكثير من الإيرادات. • الصرف الذي لا يقبل المراجعة والتدقيق على اللقاءات والاحتفالات والمهرجانات المتواصلة طوال عمر الإنقاذ، حمّل الدولة الكثير من الصرف غير المبرر. • حجم الأموال العامة المعتدى عليها حسب تقارير المراجع العام لسنوات فائتة. • دخول أصل وفوائد القروض المترتبة على تنفيذ بعض المشاريع (سد مروى مثلا) إلى بنود مصروفات الدولة، وهنا يمكن مقارنة (على سبيل المثال فقط) تكلفة تنفيذ سد مروي البالغة حوالي 4 مليار دولار مع حصيلة الدولة من عائدات البترول المقدرة بحوالي أكثر من 70 مليار دولار، وفي رواية أخري أكثر من 90 مليار دولار. • فرية تجنيب أموال بعض الوزارات والمؤسسات الحكومية لتصرف حسب مزاج الجهة، وبعيدا عن أعين ورقابة وزارة المالية صاحبة الصلاحية في الصرف (شركة الكهرباء مثالا) وبالطبع المراجع العام. • عقود العمل الخاصة جداً ذات الرواتب المبالغ فيها في بعض الوظائف القيادية. • ضعف وتشوه بيئة الاستثمار أديا إلى عزوف وهروب الاستثمارات الأجنبية. • وأخيراً، عدم توظيف إيرادات الدولة من البترول، والمشار إليها بعاليه، بشكل ممنهج وإيجابي يراعي الأولويات ويدعم القطاعات الإنتاجية الرئيسية. كل ذلك يؤكد أن غياب الاستراتيجيات والخطط والبرامج، على المستويين السياسي والاقتصادي، كانت سمة لازمت نظام الإنقاذ طوال فترة حكمه، وأن العمل كان بمبدأ "رزق اليوم باليوم". المحصلة النهائية كانتضياع وإهدار موارد ضخمة كان يمكن توظيفها في دفع عمليات الإنتاج الحقيقي، وتوالي الأزمات التي تمسك بتلابيب النظام وتجبره على المزيد من التخبط (مثل تطبيق سعر الصرف الجديد) وتعصف بالمواطن المغلوب على أمره، وتحول حياته إلي جحيم لا يطاق .. لك الله. إن تعويم سعر الجنيه السوداني، كان يمكن أن يكون جزء من حل المشكل الإقتصادي، ولكن فى إطار برنامج سياسي - اقتصادي متكامل. هذا التكامل كان من شأنه أن يؤكد جدية مساعي الدولة في الحل ويطمئن المواطن، وبالتالي يخفف الأثر النفسي الذي نتج من فجائية اتخاذ قرار التعويم بارتفاع المستوى العام للأسعار وراتفاع نسبة التضخم. ويتمثل الشق الاقتصادي من البرنامج في التركيز على الإنتاج ثم الإنتاج ثم الإنتاج.. خاصة في القطاعات الأساسية "الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، والصناعة"، وإعادة هيكلة الحكم المركزي والولائي وتقليصه مع إشراك كل القوى السياسية، وتحديد أولويات الصرف وإلغاء كافة مظاهر الصرف البذخي. ويتمثل في شقها السياسي في وقف الحرب في المناطق التي اشتعلت فيها بعد انفصال الجنوب، ووقف العدائيات مع دولة جنوب السودان، والإسراع والجدية في تحقيق سلام دارفور. } مستشار اقتصادي.