تعلقت عيون العالمين وأفئدتهم أمس ب»العفريت» نك والندا الذي عبر برزخ نياجرا بين الولاياتالمتحدةوكندا. فرآه الناس في مشواره الخطر على علو 200 قدم فوق أمواه الشلال الهادرة. كما اكتنفه هبوبه تلفح جسده وضباب نداه يشوي جسده. واستغرق المشوار الخطر 25 دقيقة بطول ثلث الميل. وكان سراطه بين البرزخين لفة سلك عرضها بوصتين. ومع أن خطر أن ينزلق العفريت ويسقط من شاهق تهدده في كل ثانية إلا أن الناس كانت موقنة أنه سينجو. فقد قيدوه بحزام أمان مثبت بالسراط ينسحب معه كلما تقدم في المشوار. فإن سقط ظل معلقاً في موقعه حتى يتم إنقاذه. والسراط من صنع وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) وأشرف عم نك على تصميمه وبنائه وتركيبه. وكان ذلك الحزام أكثر ما أثقل على العفريت فاشتكى منه مراراً لأنه أفرغ المغامرة من احتمالها المثير الغامض: الموت من شاهق. لم يكف نك ومذيع قناة الآي بي سي عن تكرار موضوعين طوال العرض. فنك يقول إنه يريد أن يلهم الناس قاطبة لكي يخاطروا في الأمر العظيم طالما تعلقوا به وأحبوه. وهذا من قول المتنبي: «إذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام». وكان المذيع من جهته يعيد على المستمعين قوله: «أنظروا له وحيداً يشق عباب هذه المخاطرة الفريدة». وفي العبارتين صورة «البطل» الأمريكي البرومثيوسي فاتح الثغور. فهو برومثيوسي لأنه حاول ما لا يُحَاول، أو المستحيل، وما قد تترتب عليه نتائج غير محسوبة. وهذه هي البرومثيوسية في الفكر الغربي الكلاسيكي.فبرومثيوس أصلاً إله أغريقي سرق النار من حظيرة الآلهة وأهداها للبشر ففتحت أمامهم مغاليق المعرفة. ويرتبط برومثيوس لذلك بفكرة تمكين الإنسان من الطبيعة وتذليلها كمادة يستثمرها في حياته. ونك لم يطوع مادة من الطبيعة بل هزم فجوة من فجواتها العشوائية مثل برزخ شلالات نياجارا وردمه بخطوه الرشيق فوق السراط. من الجهة الأخرى فنك صورة للبطل الأمريكي فاتح الثغور العصية مثل الغرب الأمريكي. فأمريكا تظن أنها في سعة من رزق الله تتفتح عليها الثغور واحدة بعد واحدة بفعل مغامرين «عفاريت». ولخص هذه العقيدة في تداعي الثغور شاعر أمريكا المهيب روبرت فروست (1874-1963) في قصيدة عنوانها «الطريق الذي لم أسلكه». وهي أشهر قصائده قاطبة. ويقف الشاعر في القصيدة عند تفاريق الطريق في أجمة (لكي لا اقول غابة ترجمة ل «wood» ) وعند عزائم اختياره لطريق منها دون الآخر: طريقان افترقا في الأجمة وسلكت أنا الذي قل طارقه وهذا ما رجّح الكفة أبدا (اي حصاد النجاح) أي أنه صار ما صار عليه بفضل سلوكه الطرق الوعرة. وقيل إن ذلك هو الذي حبب القصيدة للأمريكيين بالنظر إلى إيدلوجيا «الثغور» الذائعة بينهم كما مر. وهي أنهم قد بنوا هذا البلد العريض باقتحام مجاهله واستئناسها. وهكذا وقع نك بمشواره الفريد على السراط أمس الأول في إطار صورة الأمريكي الذي يشق طريقاً غير مطروق ويفتح جبهة كانت موصدة. من أطرف وقائع مشوار نك الخطر أنه كان يحمل جوازه في طيات ملابسه لكي يحصل على تأشيرة الدخول إلى كندا متى بلغ برها. واستقبلته الجوازات الكندية بموظفين أردت بهما إحسان إدارة التنوع الثقافي. فكان واحدهما ناطقاً بالفرنسية والآخر ناطقاً بالإنجليزية. وسأله ضابط الجوازات بصورة تقليدية: -ما غرض الرحلة؟ -أن ألهم سائر الناس أن يتجشموا الخطر لما يحبون.