تلك مقالة كتبتها في أخريات أيام الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، وأعيد نشرها والأنباء ترد عن موته سريرياً بعد الحكم عليه بالسجن مدى الحياة. أتحفتنا وزارة الثقافة والإعلام ولاية الخرطوم عبر جريدة «الأحداث» بكتاب في جريدة لرسائل للزعيم الأفريقي نيلسون مانديلا نظم سلسلتها «سلام إلى الأصدقاء وإلى السجانين» من إعداد وتقديم محمد علي فرحات. هو بحق زعيم للحرية والديمقراطية، كل حرف من تلك الرسائل محمل بإيمان عميق بتلك القيم الإنسانية التي ظل قادة عالمنا الثالث يتشدقون بها وهم يمدون ألسنتهم لشعوبهم على عكس مانديلا. وهو إن كان أمضى كل شبابه في السجن من أجل بلاده، لم يتملكه غرور المناضلين الزائفين الذين يملأون الدنيا ضجيجاً، بل قال لحضور أول تجمع بمناسبة إطلاق سراحه انعقد في مدينة كيب تاون: «أقف أمامكم ليس كنبي بل كخادم لكم وللشعب. إن تضحياتكم البطولية المضنية هي التي مكنتني أن أكون هنا اليوم، ولهذا أضع الفترة الباقية من حياتي بين أيديكم». تساءلت وأنا أقلب صفحات الكتاب في جريدة إن كانت وزارة ثقافة الولاية قد أهدت عدداً من النسخ إلى مؤسسة الرئاسة وإلى ولاة الولايات ولقادة الحزب الحاكم، عل تلك اللغة الراقية التي لا تصدر إلا عن زعيم وقائد حقيقي، المشحونة بدلالات الخير والإحترام للشعب المتبوعة بالفعل الجدي، علها تلهمهم بعض الشيء وتتخلل قاموس مفرداتهم المتعالية. ثم تساءلت لماذا لم ينتظر الكاتب الكولومبي الساحر غارسيا ماركيز عصر مانديلا، ربما غير من رأيه في كتابة روايته الأسطورية صعبة القراءة «خريف البطريرك»، وربما راوده بعض من أمل وهو يكتب عن ذلك الدكتاتور غير المتناهي من خلال سرد لا ينتهي أبداً. ومصدر تساؤلي هو إنه لن يجد صعوبة في إيجاد شخصية ديكتاتور مصدراً لروايته فهم على (قفا من يشيل). لكن ماركيز عندما يكتب فلا ينجز ذلك باعتيادية مملة رغم صعوبة روايته تلك دون الأخريات وتعقيدات آلياتها السردية. سألوي عنق المعنى هنا ليستقيم معنى الخريف كفصل من فصول السنة وليس فصلاً من فصول العمر فقط، ونحن في السودان حتى الفصول لا تمر علينا كلها لسوء حظنا، فلا نستمتع بنسمات الربيع ودفئه بعد لفحات شتاء قارص. إذاً كما بطريرك ماركيز وخريفه، يعيش الفرعون شتاءه تلاحقه دعوات بندثيون الفارادو أم الجنرال الديكتاتور التي قالت مرة: ابني المسكين الذي جرجره البحارة إلى البيت منتصف الليل إذا ما اقض مضجعه داء، وهو ينهك نفسه بوظيفة رئيس جمهورية هذه مقابل راتب بائس من ثلاثمائة بيزو شهريا يالحبيبي الصغير ،لقد سئمت الصلاة إلى الله كي تتم الإطاحة بابني، قالت ذلك بلا تصنع .. فقال لها البطريرك: أماه ،في هذه البلاد لايطيل الرؤساء البقاء قال لها سوف يطيحون بي قبل خمسة عشر يوما سترين. دكتاتور ماركيز كان أمياً لا يجيد الكتابة والقراءة، قالت أمه «لو كنت أعلم إن ابني سيصير رئيس جمهوريه لكنت أرسلته إلى المدارس». فكان مصيرها أن تم نفيها إلى قصر بعيداً عن العيون. رغم أن هذه الخاصية (الأمية الأبجدية) لا تنطبق على دكتاتوريي عصرنا بمن فيهم الفرعون إلا أن هناك أمية أخرى وفقر مدقع وجهل تام بمعرفة اتجاهات الرأي العام ورغبات الشعوب التي فرضوا أنفسهم عليها، رغبات الحرية والكرامة. كلهم لم يختارهم الشعب، بل فرضهم قانون الأمر الواقع. كلهم مثل بطريرك ماركيز الذي لم يمت بعد، يتوهمون أن تسعين في المائة من الشعب يناصرهم ويقف من خلفهم. حتى فرعون مصر في آخر خطاباته يصر على الاعتقاد بأن فئة قليلة لا تريده أو كما قال «بعض بني وطني». ظل مصدقاً ما يصوره له الآخرون، يرددون كما البطريرك: لا يخدعنك الأمر لقد بقي لي الشعب ذلك الشعب البائس.